كنت على مقربة من حديقة القصر بالخرطوم، عندما التقاني شخص لم تكن بيننا معرفة سابقة، بيد انه بدا حميماً بملامح لا تمت بصلة للفقر او البؤس واخذ يخاطبني بأسى قائلاً: (بالله ما تكتب لينا في الغلاء دا.. زي ما تكتب في دارفور والمواضيع الأخرى..) كان الوقت ضيقاً أمامنا لتبادل وجهات النظر أو لأبين له ان الكتابة في الغلاء والقضايا الاقتصادية الأخرى برغم اهتمامي المهني بقضايا المجتمع في العموم، الا انها تقع تحت مسؤولية آخرين أكثر التصاقاً واهتماماً ومعرفة بالظاهرة الاقتصادية. لقد وجدت نفسي في تلك اللحظة متقارباً مع مح?ثي لتوجيه نداء عريض للمجتمع الصحفي لتوسيع قاعدة تناول القضايا الاقتصادية لتأسيس خارطة طريق موضوعية للتحول الى اقتصاد تحسين المعيشة وتعميم مزايا الرفاهية أفقياً على امتداد الوطن. وقبل ذلك بأيام قليلة، جلست على مقربة من مجموعة ليس بينها قضايا مشتركة، بيد انهم التقوا في تناول قضايا الغلاء والفساد المالي والاستثماري وسوء حال المواطن، وأسفت أنهم وصلوا الى نتيجة مفادها ان المواطن سيظل في بؤسه، لأن اجهزة الاعلام والصحف لن تجرؤ على تناول تلك القضايا برغم وضوحها، لأن الصحفيين أنفسهم اضحوا مخدرين بعطايا حكومية من بينها توفير منازل لهم بخطة اسكانية، وتقديم امتيازات لكبار المحررين فيهم، وبتلك الخلفية فانهم غير معنيين بهموم المواطن. اسفت مجدداً ان احداً منهم لم يذكر ان للصحفيين حقوقا مستحقة عل? الدولة، او ان يعيد ما اجمع بينهم شعوراً مشتركا الى قلة التجربة او ضعف المعلومات، او ان سياسات الحكومة بالاساس تتجه الى التعتيم حول سياساتها الاقتصادية. من المثالين آنفي الذكر وغيرهما، بدا واضحاً ان المواطن السوداني أخذ يبحث عن ممثلي المجتمع الصحفي ليلقي عليهم اللوم.. لاعتقاده انهم لا يبذلون الجهد الكافي للافادة بتفاصيل معاناتهم، وتقديمها للرأي العام والاجهزة ذات الاختصاص والمعنية بالمعالجات، وهم بعد لا يجرؤون على تقديم العون الصحفي المناسب لمساعدة مواطنيهم للخروج من المأزق الراهن. بات الناس في مختلف المجتمعات لا يقبلون من المجتمع الصحفي خاصة الناشطين في الاخبار والتعليقات والتحقيقات والمقابلات والكتابة الصحفية، ان يكتفي الناشط منهم باستقباح القبيح واعلان ذلك على الملأ فقط، انما اخذ الناس يتطلعون الى هؤلاء الناشطين صحفياً، لمساعدة القراء والمشاهدين والمستمعين في تعميق الوعي واستيعاب ما يجري حولهم من احداث وتيارات عامة، وربما زادوا في تطلعاتهم بأن توفر لهم الصحافة بعضا من خيارات العمل لمواجهة اخطار المواقف التي تواجههم، اما القرارات العملية فانما يتخذها المواطن نفسه من داخل التجمعات ا?تي ينتمي اليها. انه بذلك انما يريد من الاجهزة الاعلامية ان تحدد المسؤوليات العامة، حتى يتسنى له تحديد الدور الذي يمكن أن يضطلع به أيا كانت التضحيات، لأنه بالمقارنة فان المؤسسات العامة والخاصة، تملك قدرة اتخاذ القرار بما توفر لها من معلومات وخبراء ومستشارين. ان المواطن العادي في الشارع، في بيت الجالوص، في المقهى الشعبي، وفي المواصلات العامة، وهو أغلبية يريد ان يعرف ويدرك لماذا يرتفع سكر كباية الشاي؟ او تعريفة المواصلات؟ او اسعار المواد التموينية الأخرى؟ وفي تلك الحالات مجتمعة فان مستشاره الموثوق بمعلوماته?هي الصحيفة واجهزة الاعلام الأخرى، بما توفر لها من فرص وتعهدات مهنية بصدقية في الخبر والتحليل معاً. (3) في المجتمعات الغربية والمجتمعات التي استفادت من التقاليد الحسنة في مجال الاعلام، فان ممثلي المجتمع الصحفي، هم مستشارو المجتمع الموثوق في صدقيتهم، والصحفي الذي كذب او تحايل على الحقيقة وتم اكتشافه، فليس أمامه الا سلة المهملات قابعاً فيها منسياً ومعاقباً عليه بالسقوط المهني. لعل ما حدث اخيرا لامبراطور الصحافة مردوخ وصحيفته اخبار العالم The News Of The World الشهيرة، من محاكمة مفتوحة سياسياً ومهنياً وعدلياً يعد من ابرز ملامح حرص المجتمع الصحفي الغربي على صدقيته في مواجهة الاغراءات والتهديدات. لا أحد ينتظر من الصحفي المحترف قضاء غرض شخصي على حساب الحق العام، وأي تدخل منه في سياق تنفيذي لمصالح شخصية، فانما يعتبر ذلك الفساد عينه، اما ما ينتظره منه الجميع فهو تحري الصدق في عرض الحقائق وعرض المصالح العليا للمجتمع. من الامثلة الواضحة في ذلك الشأن، موقف النجم التلفزيوني الامريكي الراحل (كرونكايد) عندما واجه في تحد مشروع الحرب الامريكية في فيتنام. بما أثار من جدل حول مشروعية الحرب، اضطر الرئيس ليندون جونسون الى القول انه فقد التيار الرئيس للرأي العام الأمريكي (The American main Strean). حدث ذلك أيضاً عندما تابع الصحفي الأكثر شهرة اليوم ود ورد مع صديق له، وكانا مغمورين، قضية تصنت الرئيس ريتشارد نيكسون على منافسيه. لقد استطاعا بكشف الحقائق على سبيل التواتر ان يدفعا نيكسون الى الاستقالة وقد بقي بينه والمحاكمة قيد شعرة. في هذا السياق ايضا يكفي ما قدمته صدقية الصحافة الغربية في حرب العراق، انها شككت ومن البداية في ان العراق تمتلك اسلحة دمار شامل، بل اخذت تضغط بالحقائق على الحكومات في مساندة واضحة للشعوب في موقفها ضد الحرب. عندما أنجلى الموقف بعد الحرب ادى الى سقوط حكومات التورط في الحرب الواحد? تلو الأخرى. لقد شهدت طرفاً من ذلك السقوط المدوي في بريطانيا، عندما فقد معظم ممثلي حزب العمال مقاعدهم في الانتخابات التشريعية (ابريل 2007) حيث فاز (حزب استكوتلندا الوطني) وهو حزب اقليمي يدعو لتقرير مصير اسكوتلندا، لأول مرة في تاريخ الانتخابات البريطانية وبذلك فقد حزب العمال السند التاريخي له باسكوتلندا. بحيثيات ما تقدم، فان الصحفي في المجتمعات الغربية، محل ثقة ومهابة في ذات الوقت، فالجمهور يثق فيه ويقدره، اما مؤسسات القطاعين العام والخاص فانها تخشى على نفسها منه مهما تضاءلت اخطاؤها. لقد انسحب احترام وتقدير المجتمعات الغربية للصحفيين وقادة الرأي العام فيهم، على الصحفيين عامة. لعلي ذكرت ذلك من قبل وكيف أني لمست ذلك من تجارب شخصية، من بين ابرزها عندما اكتشف من حولي في قطار الصباح المتجه من يورك الى لندن (1986)، اكتشفوا أني انتمي الى مهنة الصحافة، فتصارخوا (بالله.. معنا صحفي) على الفور بدأ بعضهم يحكي قصة وجود? في القطار او بريطانيا، فيما اخذ البعض الآخر يطلب خدمتي للتوسط لهم للعمل في افريقيا.. الخ. اما الجميع فقد اعربوا بامتنان ان من بينهم صحفي قد يحكي للآخرين عنهم ولو على سبيل الذكريات. (4) أما قصة الاعلام والصحافة في السودان فما تزال قصة مختلفة او قل متخلفة، وبطيئة في التعليم، وسيئة الحظ في النشأة والتطور وان كان ذلك كله حدث لأسباب موضوعية. بدأت الاذاعة السودانية كجهاز اخباري لمناصرة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، والتلفزيون تأسس في تواضع بحوش الاذاعة، كهدية من جمهورية المانياالغربية (يومئذ)، وجاءت الهدية في ظل حكم عسكري دكتاتوري (1963)، بمعنى أدق لم يؤسس الجهازان الاعلاميان تلبية لأغراض وطنية وبرؤية مهنية مستقلة، وان بذل السودانيون جهداً لتوطين خدمتهما من اجل الوطن، ومايزال الجدل حول ت?ك الموضوعات قائما ومستمرا، انهما ما يزالان يملكان امكانية وقدرة على طرد الكفاءات المهنية، والتي بطبيعة تكوينها لن تصبح ناطقة باسم حزب حاكم او سلطة شمولية. واذا ما كان للسودان حظ ونصيب في مجال المبادرة الاعلامية، فان في الصحافة حظه، اذ ان الصحافة برغم ان بدايتها كانت بداية أجنبية ايضاً اجتماعية، الا انه لم يمض وقت طويل حتى تطورت بقدرات سودانية تمويلاً وتحريرا. من ناحية اخرى فان كل الرموز المعتمدين اعلاميا في السودان، قد ترعرعوا في الحقل الصحفي، بمن في ذلك (أبو الصحف) احمد يوسف هاشم الذي واجه السياسات الاستعمارية، خاصة في المراكز حيث سلطة المفتشين البريطانيين خاصة المفتش مور Moor طاغية كتم، او كما عرفه ابو الصحف نفسه يومئذ. (5) مع الزمن وتوالي التغيير حدثت النقلات المهنية، في اول محاولة جامعية تحديثية وفي اطار كلية الآداب اسست جامعة ام درمان الاسلامية في ستينيات القرن الماضي شعبة للصحافة والاعلام وكان ضمن اساتذتها المميزين د.عبد اللطيف حمزة، الذي أسس الشعبة ذاتها من قبل بجامعة القاهرة الأم، وجامعة بغداد، لقد كان لخريجي الشعبة والكلية دور ايجابي في مختلف اجهزة الاعلام والصحف اليومية فيما بعد، الا ان ذلك الدور لم يخرج من دائرة تحسين الاداء المهني والممارسة اليومية في الدولة، ثم التبشير بأدوار قادمة للاعلام في اعادة بناء الوطن على أ?س غير استعمارية، والتأكيد على التحول في الفكر والمؤسسات الاعلامية عن القواعد التقليدية التي ظلت تكرس التبعية لقطبي الحكم الثنائي. لعل من بين ابرز المبشرين بالتحولات القادمة، علي شمو الذي كان يمثل جيل ما بعد الاستعمار في ادارة الاجهزة الاعلامية في العموم، وكان من المبشرين لعصر الترانسستر (الصغير) الذي يمكن ان يحمل امكانيات التغيير الى القرى والبوادي، وذلك في ضمن فعاليات مؤتمر المثقفين في مطلع السبعينات من على الصحف اليومية. (6) واليوم حل عصر جديد، عصر الأنترنت والتحولات الأعظم بحقوق الانسان ومحاكمة القادة في وضح النهار. انه عصر المواطن والمواطنة قد اصبح الاهتمام بقضايا المواطن هي الاساس في قاعدة التحول الديمقراطي بوعي المواطن نفسه، وهو يضع اسبقياته، وهي اسبقيات لا تقبل التأجيل والتأخير.. والآن ماذا فعلنا من اجل محاصرة الغلاء.؟!