رغم الانتقادات الكثيرة والحادة التي وُجهت لتصريحات السيد علي كرتي وزير الخارجية من قبل المتشددين في حزبه، والتي كان قد أطلقها بالعاصمة الفرنسية حول دور العالم في انقاذ الاقتصاد السوداني، رغم ذلك إلا أنني اعتقد ان تصريحات الوزير كانت موفقة الى حد كبير في ايصال رسالة دبلوماسية على مستوىً عالٍ من المهنية والرؤية الموضوعية بشأن الاقتصاد الوطني وارتباطه بالاقتصاد العالمي، وبالتالي دور العالم في إنقاذ أحد اقتصادياته من الانهيار، فقد قال كرتي بالحرف الواحد: «لا يمكن أن يقف العالم متفرجاً على الاقتصاد السوداني وهو?ينهار، في الوقت الذي أوفى فيه السودان بكل متطلبات ومستحقات اتفاقية السلام الشامل، التي انهت حربا دامية كانت قد أقلقت العالم زمنا،ولا يعقل ان يأمل العالم ان تقوم الحكومة وحدها بتحقيق سلام في دارفور». اضف إلى ذلك من الاعباء الجديدة التي نشأت من احداث جنوب كردفان والنيل الازرق والتكلفة العالية للحروب الجديدة، كل ذلك ينعكس سلبا على ظروف الحياة العادية واثرها على السلام الاجتماعي. فالمنتقدون لحديث السيد كرتي جانبهم الصواب، لانهم بنوا نقدهم على أساس واهٍ غابت عنه الموضوعية، اعتقاداً منهم أن الوزير يتسوّل المعونات من العالم الغربي، وانه لن يحصل على أية نتيجة من هذا التسول غير إراقة ماء وجه البلاد. وكما ترون فهذه حججٌ واهية، ففرنسا التي اطلق فيها كرتي تصريحاته هي واحدة ضمن أربع دول تتحكم في المؤسسات المالية الدولية مثل نادي باريس وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي مع سبع دول أخرى تسمى «مجموعة الثمانية» يحوزون على «57%» من الاقتصاد العالمي، ولو أخذنا في الاعتبار هذه الأسباب فقط، فإن?حديث كرتي من باريس عن دعم العالم للاقتصاد الوطني يصبح حديثاً وجيهاً وبلغة يفهمها العالم، مثل قوله إن الخرطوم أوفت بكل مستحقات اتفاقية السلام الشامل بنيفاشا 5002م، والمعلوم أن الاتفاقية تمت برعاية دولية وحملت معها وعوداً سخية بدعم الخرطوم إذا تمّ تنفيذ الاتفاق بصورة كاملة، وهي وعود أوسلو التي وصلت الى «5،4» مليار دولار، ولم يصل منها خلال السنوات الست التي هي عمر اتفاقية السلام سوى ثلاثمائة مليون دولار فقط. كما أن الرجل لم يستخدم اللغة القديمة التي استعدت علينا العالم، وهي اللغة التي طالما كانت «سفيراً سيئاً» للسودان عبر الاثير والصحف، حيث أدمنها في السابق بعض المنتسبين للنظام الحاكم واغلقوا بها سفارات كثيرة لدول غربية وأخرى عربية داخل السودان، كما أغلقوا سفارات السودان في تلك الدول، وتمادوا في تلك اللغة العدائية تجاه العالم وكأنهم يعيشون في جزيرة معزولة، وليسوا جزءاً من هذا العالم المترابط بأجهزة إعلامية سريعة التحرك وواسعة الانتشار، فكانت النتيجة هي أن وجد السودان نفسه بالفعل يعيش معزولاً، في جزيرة نائية دا?ل عالم شديد الارتباط ببعضه البعض سياسياً واقتصادياً. وها هو الاقتصاد السوداني يئن ويتوجع من هذه العزلة بصورة عنيفة أثرت بقسوة على كل المواطنين، حتى استحالت مواصلة الحياة اليومية لفئات عديدة من المجتمع التي كانت متعففة..والتي اغلبها كان في الماضي جزءً من الطبقة الوسطى فلجأت للأسف الى التسول وسؤال الناس. وفي أوقات مثل هذه يعاني منها الاقتصاد تراجعاً مستمراً في سعر صرف العملة الوطنية، ومعدلات عالية من التضخم، في مقابل زيادة سعر صرف العملات الاجنبية وأولها الدولار واليورو.. في أوقات مثل هذه لا بد للدبلوماسية ان تتدخل لتعين الاقتصاديين في البحث عن حلول ومخارج من هذه الأزمة المستفحلة.. وما قاله وزير الخارجية بباريس هو أحد هذه الجهود الدبلوماسية التي نتحدث عنها ونطالب بها على الدوام لكي يحدث الانسجام المطلوب بين العمل الاقتصادي والعمل الدبلوماسي تحت استراتيجية سياسية واضحة المعالم ومتفق عليها. ولعل في هذه السان?ة اشير إلى القولة المشهورة لاستاذ الجيل احمد خير وزير الخارجية في عهد الرئيس عبود حيث قال ان مهمة وزير الخارجية ان يوظف الدبلوماسية في خدمة الاقتصاد القومي، وهذا النهج الذي اختطه الاستاذ احمد خير سار عليه من بعده الدكتور منصور خالد حينما جاء وزيرا للخارجية في عهد مايو، ولعل الكثير من الناس يرون انهما من انجح الذين شغلوا هذا المنصب. وقد يستدعي الاعتراف السريع من معظم دول العالم بدولة جنوب السودان الوليدة وقفة تأمل خاصة من قبل الدول الكبرى التي سارعت لفتح سفارات وقنصليات لها لدى دولة الجنوب، والتي باشرت بإيفاد موفود متخصص لبحث ودراسة المجالات المختلفة في الاستثمار والتنمية والدعم الفني، ومن المؤكد ان هذا لم يكن ليحدث لو كانت دولة تعيش على الشعارات فقط دون انسجام مع السياسات العالمية، ودون قراءة صحيحة لفلك السياسات والتعامل معها بواقعية وموضوعية، والتي كان أكثر المراقبين السياسيين تفاؤلاً يتوقع لها انهياراً سريعاً في ظرف أشهر معدودة بحس?ان قلة الخبرة والدراية لدى الوزراء والمستشارين لديها بأمور السياسة واساليب ادارة الدولة.. ولكن إرتدت عليهم توقعاتهم خائبة بعد أن أمسك رئيس الحكومة ووزراؤه بمقاليد الامور بحنكة ودراية، واصبح الجنوب يشارك في الملتقيات العالمية، والمؤتمرات الدولية، ويقدم الحلول والمقترحات، وكان آخر تلك الملتقيات، المؤتمر العالمي الذي انعقد في العاصمة الاثيوبية أديس ابابا للنظر في معالجة مشكلة المجاعة التي اصابت بعض الدول الافريقية، حيث فتحت حكومة الجنوب أراضيها للاستثمار الزراعي داعية المؤسسات الدولية وبيوت التمويل العالمية ل?ي تنتهز الفرصة وتستثمر اموالها في اراضٍ خصبةٍ وبكر ممطرة طوال العام. ان الضرورة تستوجب علينا ان كنا جادين حقاً في مجابهة القضايا والتحديات التي تواجه بلادنا الآن، ان نقدم خطابنا للعالم من حولنا بلغة العالم المتحضرة التي يتعامل بها، وان لا تتسبب الرسائل والتصريحات السياسية السالبة التي تصدر من المسؤولين في الإضرار بالبلاد، والتي كانت في السنوات الماضية من قبيل العنتريات التي ما قتلت يوما ذبابة، بل وكانت السبب المباشر الذي ألقى بنا في هذا المستنقع الذي نعيش فيه اليوم بل ونكاد ان نغرق فيه!! وحتى لا نلقي الكلام على عواهنه فإننا نشير تحديدا إلى مثل هذه التصريحات غير المسؤولة وغ?ر المحسوبة، مثل القول إنّ الأزمة الاقتصادية العالمية لن تؤثر على السودان، فذلك حديث غير سليم ويفتقد للمنطق، لا سيما وأن الأزمة العالمية قد اثرت على دول ذات اقتصاديات اقوى من السودان مثل اليونان واسبانيا وبولندا وايرلندا، وهذا يعني أن ليست هنالك دولة في العالم لا تخلو من مشاكل اقتصادية، حيث تتفاوت مقدرات الدول على معالجة الازمات من النواحي الاقتصادية والسياسية، واذا كانت هنالك انتقادات لحديث علي كرتي، فان الأولى ان توجه تلك الانتقادات والتصريحات التي تقول إنّ السودان لن يتأثر بالأزمة الاقتصادية العالمية، وه? تصريحات قد اثبتت عدم صدقيتها لا سيما ان تلك التصريحات قد جاءت في أعقاب انفصال الجنوب، وهو امر كان يتطلب وما زال تكييف اوضاعنا الاقتصادية على نحوٍ جديد، واعادة الهيكلة وتوفيق الاوضاع، بعد خروج البترول من حصيلة الايرادات لدولة الشمال. ولهذا اعتقد ان اقتصاد ما بعد الانفصال يتطلب التعامل مع العالم باللغة التي يفهمها، والتماشي مع السياسات الدولية، واول هذه المطلوبات هو تطبيع العلاقات مع دولة الجنوب على نحو جدي وواضح المعالم وبقدر عال من الالتزام المشترك، خاصة وان الدولتين في حاجة ماسة لبعضهما البعض، وهي الحاجة التي يمكن أن تدفع بالبلدين الى تكامل تطوي فيه صفحة الماضي، وتعمل للحاضر استعداداً للمستقبل بخطاب جديد وسياسات جديدة. والحكومة الحالية عليها مهمة كبيرة ايضا وملحة للغاية في هذه المرحلة وهي «تجمع الصف الوطني وتمتين الجبهة الداخلية» وه? ما يقتضي الانفتاح داخلياً على كل مكونات المجتمع السوداني السياسية والقبلية والجهوية، والمشاركة في الحكم والمسؤولية، وفقا لبرنامج وطني يتواصى الجميع على انفاذه دون وصاية من احد، وان يكون الامر بين الناس شورى، لان الوفاق يشكل ضرورة مرحلية وانه خير وأبقى لأهل السودان خاصة وان النزاع والاحتراب لم يعد إلا في الدول المتخلفة، فلماذا نريد ان نجعل من انفسنا وباختيارنا من بين زمرة تلك الدول. وهناك قصة ذات صلة بما ندعو اليه هنا من ترشيد للسياسات والخطاب الاعلامي، ولا بد لي من سردها هنا لأهميتها، اذ كنت قد زرت سوريا بعد ثلاثة ايام من حرب اكتوبر 1973 وهي الحرب التي اثير كثير من الجدل حول نتائجها وإلى اليوم اذ التقيت هناك مع عدد من الصحافيين اللبنانيين ومراسلي وكالات الانباء، التقيت بالمستر كولن ليجم مدير مكتب وكالة رويترز للأنباء في الشرق الاوسط، والذي كنت قد تعرفت عليه في السودان عندما قابلته بمكتب المرحوم الأستاذ محمد ميرغني مدير مكتب تلك الوكالة بالخرطوم آنذاك، وفي تلك الزيارة بعد حرب اكتوبر?كان الاعلام العربي يعلن الحرب عبر الكلمات الساخنة في الصحف واجهزة الاعلام كالراديو والتلفاز، وكان يرسل اشارات مبالغ فيها حول انتصارات غير حقيقية على ارض الواقع عندما اتضحت الحقائق بعد ذلك حينما كان يقول الاعلام العربي ان الجيش السوري قد دخل اراضي اسرائيلية فإذا بالحقائق تكشف ان الجولان كلها قد اصبحت تحت قبضة الاسرائليين. وأذكر أن المستر ليجم قال: «ان الاعلام العربي هو اعلام عدائي بالنسبة للآخرين ويميل إلى التهويل يتحدث عن انتصارات لا تتعدى سقف الحلقوم، وفي معرض حديثه قال بانفعال شديد وباللغة العربية التي ?ان يجيدها قال انه كرجل محايد في الصراع العربي والاسرائيلي، عليه ان يقارن بين ما تعرضه اجهزة الاعلام العربية والاسرائيلية مشيرا إلى انه بينما الاسرائيليون يعرضون في وسائلهم الاعلامية الاطفال الصغار في مدارسهم يتلقون العلم والعمال في مصانعهم يعملون والناس في حياتهم العادية ماضون فإن العرب، ووسائلهم الاعلامية ظلت تعرض الجنود وهم يحملون الاسلحة الثقيلة ويركبون الدبابات والمجنزرات العسكرية في اعتى اشكالها من السلاح المدجج ويهتفون «ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة» وان قادتهم يقولون انهم سيرمون باسرائيل في الب?ر،ففي هذه الحالة فإن المراقب المحايد مثلي يتساءل إلى أين اقف من الجانبين خاصة وان القضية لم تعد في من لديه الحق فإن السؤال يدور حول ما هو الامر الواقع؟. وخلاصة القول إن الرسائل الخاطئة لن تحل مشاكلنا إن لم تزد الامر تعقيدا وبالتالي فإن اللغة التي تحدث بها علي كرتي من منطلق واقعي هي لغة يفهمها العقل ويستوعبها المنطق خاصة وان الواقع الماثل يتعامل مع القضايا في شكلها وحجمها الحقيقي، والمطلوب ليس فقط تفهمها وانما قبولها ومحاولة تعاطيها على الارض. فإن لم نفعل ذلك تكون براغث قد جنت على نفسها!!.