مثلما فشل المشروع السياسي للدولة الرسالية، فشل برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي تحكمت فيه المصالح الحزبية والشخصية باسم الدين، حيث تجلى فشل البرنامج الاقتصادي وخاصة في هذه الايام الصعبة التي يعيشها الشعب السوداني، في التضخم الركودي وارتفاع أسعار السلع والخدمات الضرورية الى مستويات غير مسبوقة، والتذبذب الحاد في سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وتفشي البطالة والإحباط في أوساط الشباب والخريجين، بجانب التراجع الحاد لمعدلات النمو الاقتصادي للدولة. وتعتبر هذه النتائج الكارثية ثمرة فاسدة لمشاريع الاس?مة الناقصة والانتقائية التي حولت الاقتصاد السوداني الى حقل تجارب لافكار فلسفية لا علاقة لها بعلم الاقتصاد المعاصر الذي يستمد قوته من تيار العولمة الجارف وثورة التقنية والمعلومات الظافرة. ربما نتفق مع الدكتور حسن الترابي في تصريحاته الاخيرة اثناء زيارته لمصر، والتي اوضح فيها انه لا يوجد نظام اقتصادي متكامل في الاسلام، لذلك تبقي دعوات أدعياء الاسلمة من باب المزايدة والديماغوجية الفكرية لتحقيق مكاسب شخصية وفئوية باسم الدين الاسلامي. حيث يمكن طرح هذه الاسئلة المشروعة لماذا لم نقرأ او نسمع دعوة لتطبيق اقتصاد مس?حي أو يهودي أو بوذي او كونفوشنزمي أو شنتوي؟ لماذا لم نسمع بدعوة من معتنقي هذه الديانات في العالم لتطبيق اقتصاد على اسس دينية بحتة؟ وهل تطبيق الاقتصاد الحر أو المختلط يعتبر صبواً وخروجاً من الدين؟ أرجو من القارئ الكريم ان يساعدنا على الخروج من هذا المستنقع الذي توحل فيه الاقتصاد السوداني ويوحل فيه كل من يحاول انقاذه!! وفي خواتيم هذا المقال الافتتاحي لا بد من توضيح أمر في غاية الاهمية وذي صلة قوية بتحليلاتنا لدور الاسلمة في تدمير وتخريب الاقتصاد السوداني، يستند إلى حقيقة مفادها أن النصوص القرآنية والسنة المحمدية الشريفة لا علاقة لها بهذه الممارسات الاجتهادية الناقصة التي يستخدمها بعض الانتهازيين لتحقيق مكاسب حزبية أو شخصية باسم الدين. وعليه تستند تحليلاتنا لواقع الاسلمة إلى فرضية مركزية أن هؤلاء الذين قاموا باستدراج الاقتصاد السوداني الى هذا المستقنع الموحل لا ينطلقون من مصلحة عامة للوطن أوالشعب، وانما لتحقيق مصالح شخ?ية أو حزبية، مما ادى الى تخريب وتدمير البنيات التحتية للاقتصاد السوداني، وحولته الى حقل للتجارب الفاشلة. وتبقى أسلمة الاقتصاد السوداني هي المتهم الأول في تخلف الاقتصاد الوطني وتفشي العطالة والمحسوبية وارتفاع الاسعار وتذبذب سعر الصرف وعدم العدالة في قسمة الموارد بين فئات الشعب المختلفة. لقد حاربت الأسلمة توظيف المرأة في مؤسساتها «البنوك الاسلامية بنك فيصل» مما عزز الفقر والعوز في اوساط النساء والمجتمع بشكل عام. الأسلمة مسؤولة عن عزل الاقتصاد السوداني من محيطة العالمي بمحاربتها لسعر الفائدة وتحريم الاسوا? المالية في السودان وخاصة أسواق السلع والبضائع والعقود المستقبلية والعقود الآجلة وعقود الخيار وعقود المبادلات وغيرها من الاسواق المالية التي لا يمكن أن يستغني عنها اقتصاد ينشد النمو والتقدم خاصة في عصر العولمة وثورة تقنية المعلومات المعاصرة. ومما تقدم سرده يتضح ان هنالك حاجة ماسة وملحة لاتخاذ حزمة من القرارات الشجاعة والجريئة لتصحيح مسار الاقتصاد السوداني بالتخلص الفوري وغير المشروط من تركة الاسلمة الناقصة، وذلك على نحو ما يلي: 1/ تحرير الاقتصاد السوداني من قبضة الاسلمة الناقصة، وذلك بفتح الاقتصاد الوطني للتعامل بنظامين اسلامي وغير اسلامي في كافة مؤسسات الدولة. 2/ استتابة البنك المركزي والعودة به الي نظام الاقتصاد الحر، والعمل بصورة مهنية واحترافية في رسم السياسية النقدية للدولة، وتقديم المشورة للحكومة وادارة السيولة في الاقتصاد الكلي، بدلا من دوره الحالي كداعية اسلامي لنظام اقتصادي غير مكتمل المعالم والصورة وفاشل على ارض الواقع. والسؤال مرة أخرى لماذ لم تأسلم البنوك المركزية في الدول التي توجد بها مصارف اسلامية كمصر وامارة دبي؟ 3/ مراجعة السياسة المالية للدولة بازالة الضرائب وتوسيع مصادر الايرادات العامة واعدام الفساد بشكل كامل ونهائي في المؤسسات المختلفة، فضلا عن ادخال منتجات مالية غير اسلامية لتمويل التنمية كالسندات الحكومية والولائية والمحلية، وفتح الطريق امام اسواق النقد ورأس المال لتقدم منتاجتها المالية التي تساعد في ادارة السيولة وتمويل الموازنة العامة ومشاريع التنمية المختلفة. 4/ كسر الحصار الاقتصادي المفروض على السودان منذ 1998م بالتطبيع مع الولاياتالمتحدةالامريكية والدول الاروبية الاخرى، بغرض فتح الاسواق امام الصادرات السودانية واستجلاب الانظمة المالية المتقدمة لتسهم في تطوير اسواق الاوراق المالية والنقد الاجنبي والسلع والمشتقات المالية. فإن تطور هذه الاسواق امر حتمي لنمو الاقتصاد وخاصة أسواق السلع الزراعية والنقد الاجنبي التي يحتاج اليها الاقتصاد السوداني بشكل ضروري وملح، علماً بأن ادارات الافتاء المختلفة تنقصها بل تجهل اساسيات عمل هذه الاسواق التي نحتاج اليها في اقتصادنا ا?وطني. 5/ كسر احتكار الخدمة العامة لحزب بعينه، وفتح فرص التوظيف امام كل الكفاءات السودانية من خبراء اقتصاديين ومحللين ماليين واداريون وتقنيين لبناء اقتصاد حر مستمدة من التجربة الرأسمالية الغربية، مع تقديم برامج وطنية مصاحبة للحد من بعض الآثار السالبة التي قد تفرزها عملية التحول الاقتصادي المرتقبة. 6/ تفكيك النظام الشمولي الحاكم والتحول الى دولة مدنية وديمقراطية تراعي وتصون مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في السودان، أمر حتمي وفرض عين على كل السودانيين. 7/ تكوين جمعية وطنية من خبراء اقتصاديين تتولى التوعية الاجتماعية بسلبيات نظام الاسلمة في السودان، والعمل من أجل العودة بالسودان الى وضعه الطبيعي بين شعوب العالم كدولة منتجة ومصدرة للسلع الزراعية ومحبة للسلام، وليس دولة منتجة للازمات ومصدرة للارهاب. 8/ اعتماد نظام السوق الحر «قوي العرض والطلب» في معالجة حالات عدم التوازن التي تطرأ على الاسواق السلع والخدمات دون التدخل الحكومي المباشر الذي يضر بالاقتصاد الوطني. 9/ لا بد من ربط العملة الوطنية «الجنيه السوداني» بالذهب مرة أخرى للحد من التذبذب الحاد في سعر الصرف، والسيطرة على التضخم الركودي في اسعار السلع والخدمات، ومنح العملة الوطنية ثقة أكبر في المعاملات المالية الدولية، وإعطاء الاقتصاد السوداني فترة استراحة «استجمام على شواطئ النيل» ليلتقط انفاسه ويبدأ تطوره وفق سياسية نقدية جديدة نوعية ومبتكرة، علماً بأن السودان أصبح منتجاً ومصدراً للذهب، مما يعزز فرص نجاح الفكرة. 10/ استكمال دورة الاقتصاد السوداني ببناء مؤسساته المفقودة كالاسواق المالية «اسواق الدين وحقوق الملكية والمشتقات المالية»، وهذه الاسواق مهمة لإكمال المعاملات المالية والتجارية لتجنيب المستثمرين حالات التعثر، على سبيل المثال، يستطيع المستثمر بيع وشراء المشاريع والمؤسسات المختلفة في هذه الاسواق، ويتم الحد من التعثر في النظام المالي والمصرفي للدولة. أتنمني ان أكون وفقت في توصيل وجهة نظري للقارئ الكريم، وأقدم لكم الدعوة للمشاركة الفاعلة في اجراء حوار هادف وبناء من أجل التخلص من هذا النظام الاقتصادي الظالم الذي جلب لوطنا وشعبنا الخراب والدمار، بالرغم من الموارد الغنية التي تزخر بها بلادنا. كما لا يفوتني أن أشكركم جميعاً على اقتطاع جزء من وقتكم الغالي لقراءة هذا المقال الذي يناقش موضوع الأسلمة بوصفها ظاهرة اقتصادية معاصرة.... ونواصل. * أستاذ الاقتصاد والعلوم المالية [email protected]