تمطرنا الأحزان فتتقاطر علينا دونما استئذان، لأننا كما قال أحد العارفين: أودية الأقدار ومجاري الأحكام، التي تجري عليها مياهها حلوها وقلزمها. ولا يملك الإنسان إزاء مثل هذه النوازل سوى خيارين إثنين: إما الانصياع والتسليم والقبول بالقدر الذي لا مردّ له، أو الجزع والانكسار، وتعذيب النفس والفضاء الاجتماعي الذي يتأثر أفراده بتأثرات أقرانهم، ما سرّ منها وما أحزن. كل الأديان، وأعني هنا المعنى الجينيريك Generic بمصطلح أهل الصيدلة، للأدوية التي تنطلق من أصل واحد، وبمواصفات متسقة وتختلف مسمياتها التجارية. فكل دين يطالب معتنقيه باحترام الأقدار وقبول وقائعها المتنزلة، والصبر على لأوائها، لأن المردود عال، فالصبر يعقبه الفرج، وكل عسر لا بد تابعه يسر، كما أن أهل العقائد الكريمة، وحتى الفلاسفة الراشدون، يرون أن ترويض النفس على قبول الواقع مهما كان مرّاً وتوطين النفس على مقاومة الشدائد من الأصول الفلسفية المرعية عندهم. مَنْ ننعى اليوم هو من الأشخاص الذين يُصنّفون في قاموس عوام الناس وسوادهم، من أولئك الذين لم يتبوأوا مقاعد السلطة، ولا خاطبوا الجماهير عبر التلفاز، أو حُشدت لهم الحشود و جيّشت لهم الجموع. الداعية الشيخ عبدُالله محمد الأمين، من شيوخ الحواتة، الذي نزل نبأ نعيه نهاية شهر سبتمبر الماضي. فقد نشأ وترعرع في تلك البلدة الرائعة الوادعة على الشاطئ الشرقي لنهر الرهد، على الحدود الفاصلة بين ولايتي القضارف والجزيرة، بعد أن قدم أهله من ديار الجعليين في وقت باكر في نهايات القرن التاسع عشر، عندما كانت جيوش المهدية تقاتل ف? شرق السودان، في منطقة القلابات و دوكة والشوّك، لحماية أرض و حدود السودان من تغول المستعمرين والطامعين، الذين أوعزوا إلى الملك الحبشي يوحنا يوهانس، بأن يهاجم ذلك الجزء من السودان ليهجموه هم من شماله، حتى يُمنع المدّ الإسلامي إلى شرق إفريقيا، فلا تتأثر الصليبية وتنسدّ الطريق على المستعمرين، الذين فرضت عليهم مقتضيات الثورة الصناعية البحث عن الأسواق والمواد الخام بأي ثمن. فتنبّه الخليفة عبدالله التعايشي للأمر، فردّ بإنفاذ جيش ضم كبار قادته العسكريين، تحت القائد الأعلى الأمير الزاكي طمل، وبرفقته أبو قرجة وأبو?عنجة، والنور عنقرة. وكذلك كان في قيادة الجيش على الألوية الأمير عبدالله بكر، والأمير موسى يعقوب ود حامد. كان ذلك بعد أول للسلطة الدولة بالغزو في السودان، تولى كِبره الأتراك عام 1820م، فانحرفوا بالبلاد عن التطبيق القومي للشريعة المهتدية بالإيقاع الشعبي، والتيسير التدريجي، وفق أفهام فقهاء السلطنة الزرقاء التي أفرزها التحالف بين النوبة والعرب، بقيادة عمارة دنقس وعبدالله جمّاع، الذي اكتسب اسم الشهرة من عبقريته في تجميع القبائل العربية، والتفاوض مع النوبة بصوت واحد، مما مكّن لإقامة أقوى اتحاد كونفدرالي إسلامي?عرفته الدولة في إفريقيا في القرن السادس عشر، وتحديداً في عام 1504م، فسُميت تلك الدولة السلطنة الزرقاء، فكانت لها رايات سود، إذ الأزرق في دارجية أهل السودان يطلق على الأسود، فلذلك لا نقول رجلاً أسودَ بل أزرق، وكان على رأسها سلطان يحكم من العاصمة سنار، كونفدرالية عبر التوافق مع العبدلاب في الحلفاية وسلطنتي تقلي ودارفور، وبطريقة ديمقراطية تتضمن عقداً اجتماعياً على غرار الحلف بين العبدلاب والنوبة. ولعل مسألة العقد الاجتماعي هذه سبق السودان بها كافة الدول في أفريقيا منذ العهد الذي انعقد بين الصحابي عبدالله بن ?بي السرح والنوبة في باكر فجر الإسلام وبالتحديد في عام 31 هجرية. فقد تعرفت دولة السودان الوطنية آنذاك على العقد الاجتماعي ومبادئ سيادة الشعب في وقت لم تعرف فرنسا الديمقراطية، ولم يكتب الفيلسوف جين جاك روسو العقد الاجتماعي، الذي أرسى أسس الديمقراطية وسيادة الشعب بعد قيام السلطنة الزرقاء بنحو 270 عاماً. نقول هذا الكلام للمنبهرين من أبنائنا المغرَر بهم من تلقاء المناهج الدراسية الوطنية القاصرة، فأضحوا مغرَمين بكل ما يأتي من الغرب، فيتعاملون مع بلادهم كأننا كنا مقبورين تحت الأرض فجاء كتشنر فإذا هم قيام ينظرون. كلا ثم ألف لا، فالسودان كان قبل الإسلام، وكان قبل فرعون وقبل موسى عليه السلام، فالتاريخ القديم يروى أن أم موسى من النوبة، وتزوج إبراهيم الخليل عليه السلام أمنا هاجر، وهي من النوبة، وأنجبت له ابنه الأول اسماعيل، الذي أكرمه الله فاحتفى بميلاده بتفجير معجزة بئر زمزم التي لا تزال المعجزة الكونية الخالدة ?الباقية إلى يومنا هذا، كما أن من نسل إسماعيل جاء محمد النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، فهو سيد ولد آدم أجمعين،وأفصح العرب، وصاحب الوسيلة والفضيلة، والدرجة العالية الرفيعة، و صاحب اللواء المرفوع، والحوض المورود. إننا نقول هذا لكي لا يشعر أبناؤنا بالتقزم والإذلال أمام الآخرين ممن لا يعرفوننا، لأننا اليوم لسنا كأمسنا للأسف، وحتى حين يشاهدون من بين ظهرانينا أقواماً انكسرت نفوسهم أمام بريق المال أو صولجان السلطان. كان الداعية الشيخ عبدُالله من سلالة هؤلاء القوم المغاوير الناذرين أنفسهم لتحرير السودان، والحفاظ على قيّمه الموروثة منذ بدء تاريخه المعاصر، ممن تم على أيدي أجدادهم تحرير الشرق ، في القلابات والقضارف وما حولها. فلما استشهد الخليفة عبدالله التعايشي عام 1899م في أكبر عملية لتغيير الأنظمة الوطنية عبر الغزو العسكري والإبادة البشرية في أفريقيا، عندما أباد الجيش البريطاني في معركة غير متكافئة، استمرت زهاء الأربع ساعات، ما لا يقل عن 24000 من مجاهدي المهدية، في معركة كرري وحدها بمدافع المكسيم الرشاشة، التي جُربت لأول مرة في السودان، بعد حرب البوير في جنوب أفريقيا، وبعد أن أمر كتشنر، الذي جاء من هناك، بالإجهاز على الجرحى والأسرى، في مشهد يندى له جبين الإنسانية، ثم أبيدت بعد ذلك بقليل كل القيادة السياسية للدولة التي فضلت ا?استشهاد على الاستكانة والاستضعاف والاستسلام في أم دبيكرات. فعندما حُسمت المعركة لصالح مدافع المكسيم، والقطارات التي جاء بها كتشنر للتفوق في الإسناد وتسهيل خطوط الإمداد والانتشار أمام الحراب والسيوف والخيول والدواب وقليل من بنادق المرحلة السابقة، عندئذٍ ارتأى الأمراء والمجاهدون الذين بقوا مرابطين على مشارف القضارف الارتكاز حيث هم، وذلك بعد أن أمر الخليفة في وقت سابق كبار القادة باللحاق به في كرري، فأرسل الزاكي طمل إلى شمال البلاد عندما بدت نُذر الغزو تلوح بيارقها على الأفق، ثم لحق بالزاكي بعض القادة الآ?رين، إذ لا تزال الآثار الباقية من جيش المهدية في ديم النور بالقضارف، الذي اُطلق تخليداً للنور عنقرة الذي أقام معسكره هناك، كما أن أحفاد الزاكي طمل لا يزالون هناك، وهناك ديم بكر، الذي أطلق على الأمير عبدالله ود بَكُر، وفي قلع النحل مرقد الأمير موسى يعقوب ومن بعده ابنه الناظر يعقوب، تلوح آثارهم على قمم جبال قلع النحل غربي القضارف، كباقي الوشم في ظاهر اليد، إذ سُجيّ رفات الأمير المجاهد الأنصاري موسى ود يعقوب الصليحابي العباسي على مشارف المسجد الكبير. وغير بعيد من تلك البقعة المباركة من أرض السودان الشرقي، م?ام أحفاد الخليفة عبدالله التعايشي في بلدة بان القريبة من قلع النحل، وعلى مرمى حجر منهم، في بلدة البيضا مرقد وقبّة جدنا الشيخ عابدين ود العجوز، حفيد الشيخ عبدالله ود العجوز الكبير صاحب القبة الشهيرة بجبل مُوية، ومرقده معروف يُزار. فنأمل في هذا المقام أن يقوم والي القضارف السيد/ كرم الله عباس، بالاهتمام بهذا التراث المشرف العظيم، فهو ملك لكل أهل السودان، ونرجوه أن ينشئ في عاصمة الولاية متحفاً لتخليد هذا التاريخ ورعايته، وتعريف الأجيال، حاضرها و شارفها، بمآثر الآباء والأجداد الخالدين، حتى لا تعصف بهم رياح ا?عولمة والمسلسلات المجلوبة، فينسَون من هم وماذا يريدون و لا إلى أين يذهبون، فالأمة التي لا تعرف تاريخها لا تستطيع أن تعيش باعتزاز في حاضرها، فلا تتمكن من تلمس مستقبلها، وبذا تكون عرضة للوقوع في الأخطاء التي ارتكبها أو اجتنبها أسلافها. هذه هي ملامح وسمات البيئة التي أنتجت الداعية الشيخ عبدُالله محمد الأمين، الذي نشهد بحق أنه كان بارّاً بوالدته، التي أصرّت عليه بعد أن ذهب إلى الجنوب في الستينيات إلى حيث مريدي و أنزارا و يامبيو، داعياً لله ومتطوعاً في التوعية والإرشاد، فتزوج بإحدى الفتيات المؤمنات، ورفض أن يطلقها بعد أن أحضرها معه لأهله الذين لم يألفوا التزوج من خارج بنات القبيلة في ذلك الأوان، ولكنه برّ أمه بزواج ابنة خالته التي حجزتها له في وقت باكر، إرضاءً لها. نعلم أن الفقيد كان بارّاً بوالده حتى وفاته، ثم تنازل عن حظه في الورثة لأخوته، لأنه رأي أنهم أحوج لها منه، فغادر إلى مدينة سنار حيث اتخذ داراً وعلّم أبناءه فأحسن تربيتهم. ولعل الله أراد أن يبرّه بإحسانه لأرحامه، فنفعه بطاعته، إذ يقول الفقهاء أن الجزاء من جنس العمل، فكما تدين تدان، فقد تُوفي الشيخ عبدالله في الحواتة، مسقط رأسه ومهوى فؤاده، إبان زيارة لتفقد أرحامه لدى حيث دفن والده قبله، ولكن الموت لا يستأذن أحداً.. وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع.. هذا تراثنا وذلكم تاريخنا، وهؤلاء هم رجالنا. نقول لهم: سلام عليكم طبتم، أنتم السابقون ونحن إنشاء الله بكم لاحقون، أنتم فرطنا ونحن على الأثر. . فمجاري الأنهار ومهابط المياه والوديان لا تتجافى و لا تتلاشى عندما تهطل الأمطار. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، فيقيننا أنه الذي خلق وأعطى، و أمات و أحيا. إنا لفراقك يا شيخ عبدُالله لمحزونون. (إنا لله، وإنا إليه راجعون). ٭ سفير السودان لدى جيبوتي والمندوب الدائم لدى الإيقاد