عندما طرقت الجيوش الغازية بقيادة اللورد كتشنر باشا البوابة الشمالية لأم درمان عاصمة الدولة الوطنية السودانية ، وهى تحاول اسدال الستار حول دولة سودانية وطنية مسلمة أسسها الثائر المسلم محمد أحمد المهدى، كان كتشنر ومن ورائه دولتى الحكم الثنائى الاستعمارى يختارون فى الحقيقة الوقت المناسب تماما لغزو السودان والاجهاز على دولته الوليدة ، فقد كانت الجبهة الداخلية ممزقة وتعيش صراعاً عنيفاً بين إثنين من مكونات المهدية الاساسية هم اولاد البحر واولاد الغرب،فقد مضى المهدى قبل ان يكمل تحول المهدية من مرحلة الثورة الى مرحلة الدولة وخلف على الحكم انسجاما مع مبادئه التى يدعو لها واحدا من اخلص اصحابه هو الخليفة عبد الله التعايشى متخطيا بذلك اهل بيته وعشيرته من الاشراف متأسيا بسيرة المصطفى (ص) الذى خلف أبا بكر الصديق بدلا من على بن ابى طالب كما كان يتوقع بعض الناس ، ترك المهدى منشورا اوصى فيه بطاعة خليفته والائتمار بامره لكن الخلافات الداخلية للمهدية تفاقمت ولم تكن فى الحقيقة محصورة بين الاشراف بقيادة الخليفة محمد شريف حامد الذى تزعم تمرداً مسلحاً على الخليفة من داخل العاصمة ام درمان انطلق يوم 23/11/1891 وانتهى بهزيمة المتمردين والتشهير بهم واتهامهم فى دينهم حسب المنشور الذى وقعه 46 من علماء السلطة وقتئذ (الأسماء منشورة فى تاريخ السودان لنعوم شقير) هذا طبعا لم يحدث للذين تمردوا على الانقاذ إذ لم يصدر العلماء فتوى للطعن فى دين خليل او مناوى رغم تمردهم . تمرد الاشراف لم يكن هو الاول فقد سبق الاشراف تمرد الشيخ مادبو فى فبراير 1887 والشيخ صالح الكباشى مايو 1887 والامير يوسف بن السلطان ابراهيم 1888وابو جميرة 1889 وجميعهم قتلوا وقُطعت رؤسهم وارسلت الى الخليفة فى ام درمان ، الخلاف والصراع على السلطة لم يقتصر على السادة الاشراف من امثال احمد سليمان وصالح ود سوار الذهب وسعيد محمد فرح وحلفائهم من اولاد البحر الذين تم نفيهم بعد فشل تمردهم الى فشودة و تحديد اقامة ابناء المهدى البالغين الفاضل ومحمد وبشرى لكن الصراعات الداخلية والشعور بالظلم والغربة عن المهدية توسع وشمل الكثيرين من قادة المهدية من جميع بقاع السودان ، وفقد الخليفة قادة مثل ابو قرجة وزقل وود جار النبى والزاكى طمل الذى سجن نتيجة لوشاية سعى بها البعض للخليفة فارسل من داخل سجنه رسالة قصيرة معبرة الى يعقوب جراب الرأى قائد الجيش قال فيها : (قل ليعقوب سيأتى اليوم الذى تحتاجون فيه لامثالى من الرجال ولن تجدوهم ) كذلك افنت الحروب المختلفة التى خاضها الخليفة داخليا وخارجيا عدداً كبيراً من قادة المهدية ورجالها الفرسان ونقص ايمان البعض بالمهدية وبدأوا يتركون مجاورة الخليفة وملازمته فى ام درمان ويفرون الى بواديهم فى كردفان ودارفور والبطانة وشرق السودان، فقد نقلت الروايات الشفهية التى سمعناها فى بادية الحوازمة ان الناس كانوا يهجرون خيلهم ويعطشونها حتى إذا وجدوا فرصة وغفل عنهم الملازمية فروا هاربين الى البادية واذا تم سؤالهم قالوا : (نحن كنا قايلين الموضوع مهدية لقيناه ده حيمات ملك عطية ) حيمات هو جد التعايشة وعطية هو جد الحوازمة والمسيرية والرزيقات ، واجه الخليفة الغزو بجيش لم تنقصه الشجاعة والبسالة لكن الجو العام كان يسوده الغبن والشعور بالظلم ، شهد بشجاعة الانصاروبسالتهم اعداؤهم قبل اصدقائهم وقال ونستون تشرشل احد رؤساء الوزراء البريطانيين السابقين والمراسل الحربى فى جيش كتشنر وهو يدون يوميات الجيش الغازى فى كتابه (The river war) حرب النهر ( لقد كانوا اشجع من مشى على الارض دمروا ولم يقهروا بقوة الآلة ) وكتب استيفنسن كما اورد كمال الجزولى فى كتابه إنتلجنسيا نبات الظل (لقد بلغ رجالنا درجة الكمال لكنهم هم فاقوا حد الكمال كان ذلك اعظم واشجع جيش خاض حرباً ضدنا حملة بنادقهم يحيط بها الموت والفناء من كل جهة وهم يجاهدون عبثا لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرديئة عديمة الاثر فى وجه اقوى واحدث اسلحة التدمير ) وكتب وارنر معلقا على كررى (ربما وجدنا إذا نقبنا فى تاريخ الانسان جماعة ماثلت فى شجاعتها الانصار ولكننا قطعا لن نجد مهما نقبنا جماعة فاقتهم شجاعة ) هذه هى الشهادات حول كررى ويكفى ان شعار المعركة كان سدو الفرقة قدم الانصار فى يوم واحد اكثر من عشرة الف شهيد واكثرمن ستة عشر الف جريح لكن المهم ان الاجواء لم تكن تساعد على النصر تأملوا إن شئتم قول بطل المهدية الفذ الشهيد ابراهيم الخليل (قائد شاب من الراية الزرقاء عمره 26 سنة ) وهو يخاطب الخليفة قبل معركة كررى (الخير فيما اختاره الله ،المهدية مهديتكم ونحن قدنا بنسدو الا نصرة مافى ) بل بعض قواد المهدية من المقربين الى الخليفة كانوا يرون الانكفاء غربا وترك عاصمة الدولة. قال الامير التعايشى الزاكى عثمان فى آخر شورى عقدها الخليفة للحرب قبل كررى (ان الجيش الذى حاربناه فى اتبره لا طاقة لنا على حربه هنا فإذا وقفنا له هنا تغلب علينا لا محالة وام درمان يا مولاى ليست بلادنا حتى نقف فيها وندافع عنها فالاولى بنا ان نأخذ رجالنا وأسلحتنا الى كردفان ، فإذا لحقنا جيش الحكومة اليها وهو لا يفعل ذلك الا بعد استعداد كثير وزمن طويل ، هجرناها الى شكا وهى دارنا فإذا جاءنا اليها قاتلناه ودافعنا عن وطننا حتى انتصرنا او متنا ) وهو رأى كما ترون انهزامى يشبه رأى المطالبين بالانفصال والانكماش شمالا . غضب الخليفة غضبا شديدا من هذا الراأى وامر بلطم صاحبه واخراجه من المجلس وهكذا خاض الخليفة معركته الحاسمة وجبهته الداخلية فى اسوأ احوالها والعبرة التى يجب ان نستفيدها من درس المهدية هى انه لابد من مواجهة الاخطار الخارجية بصف موحد وجبهة متماسكة وعمل اصلاحات تساعد على وحدة الجبهة الداخلية ،المهدية فتحت الخرطوم فى 26/1/1885 وتوفى المهدى وتمت مبايعة الخليفة يوم 22/6//1885 وتصاعدت الخلافات الداخلية حتى وصلت اقصاها بتمرد الاشراف 23/11/1891 اى لم يجد الخليفة وقتاً كافياً لبناء مؤسسات الدولة وجراء الاصلاحات اما الانقاذ فقد استلمت السلطة منتصف 1989 وواجهت اول انشقاق كبير اواخر 1999 اى بعد عشر سنوات من تفجرها واستمرت الخلافات وظهرت حركات دار فور المسلحة بعد اكثر من عشر سنوات من إستلام السلطة ومازالت هذه الحركات تحمل السلاح. صحيح الخلافات فى الانقاذ اقل من المهدية ولم تواجه بمثل ما وُجه به المعارضون ايام الخليفة لكن الدرس الذى يجب ان نتعلمه هو ان الخلافات الداخلية خطر على الدولة حالة وجود عدو خارجى وربما تفقدنا كل الدولة الوطنية الموحدة ونتحول الى دويلات متنافرة ، فالسودان يعيش اليوم خطر التشرزم والتمزق واسرائيل طرقت بوابته الجنوبية ووجدت اذنا صاغية والحركات المسلحة الشمالية وجدت فى الجنوب ملاذا آمنا ولا تتورع من طلب الدعم من اسرائيل والارتماء تحت احضانها فلا بد من جهود تبذل بواسطة الحكومة والمعارضة وتنازلات تقوم بها الحكومة والمعارضة لتجاوز هذه الازمات. لقد فرحت بالاعتراف الذى نقلته صحف السبت عن الشيخ حسن الترابى فى خلاوى الارباب فى شرق النيل والذى ابان فيه ان السودان يواجه نذر فتنة ولا بد من جهد لتجاوزها واول هذا الجهد بالطبع مطلوب من الشيخ نفسه كما اتمنى ان يتبنى الرئيس عمر البشير مبادرة اصلاح من شقين الشق الاول اصلاح اجهزة الدولة ومتابعة ادائها ومحاصرة شبهات الفساد وإقامة العدل والقسط بين الناس كافة والشق الثانى تغليب روح التسامح وضبط الخطاب الحكومى ليكون اكثر حكمة ومد جسور التواصل مع المعارضين داخليا وخارجياً معارضة مسلحة وغير مسلحة وذلك مواصلة للمنهج الذى بدأته الحكومة وساعد فى توسيع المشاركة فى الحكومة ، شهدت الايام السابقة تطورات كثيرة نرى ضرورة استثمارها بواسطة الحكومة ظهور قيادة جديدة للعدل والمساواة خلفا للدكتور خليل ابراهيم يجب ان تكون فرصة لاعادة المحاولة للتوصل لحلول مع هذه الحركة ومع الحركات الاخرى ، وتصاعد الحروب الداخلية فى دولة الجنوب سيجعل الجنوب مشغولا بقضاياه الداخلية ومستعد لتحسين علاقته مع الشمال ووقف دعمه للحركات المسلحة نحن لا نيأس من التذكير بضرورة بذل جهود لخلق الاستقرار وإزالة الاحتقان وذلك بالطبع لا يتم الا بعد الاتفاق على الالتزام بالعمل الديمقراطى وتطمين الاحزاب المعارضة بحرية العمل السياسى وتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص والابتعاد عن الاستقطاب الإثنى والجهوى ، الذى ظلت المواقع الالكترونية تروج له وتثير الكراهية بين ابناء الشعب السودانى الواحد. وإذا كان الامام عبد الرحمن المهدى قد استطاع بعد صبر وجهد ان يعيد الثقة التى تعرضت للإهتزاز بين النسيج الانصارى الداخلى وإذا افلح تحالف العبدلاب والفونج ان يبنى دولة سنار المسلمة فإن الانقاذ من باب اولى تستطيع تجاوز المرحلة الحرجة الحالية وبناء دولة يرضى عنها الغالبية وتبعد عن ما تبقى من السودان شبح الانقسام والتمزق، ويجب على الحكومة ان تكون مستعدة لدفع اى ثمن لوحدة السودان وحفظ نسيجه الاجتماعى. * مركز دراسات التماس