قيل على أيام الرئيس الأسبق جعفر نميري ضبطت السلطات أحد المناهضين للنظام يوزع (منشورات) في ميدان أبو جنزير، وهو ميدان كان يعج بالمواطنين لأنه محطة المواصلات الرئيسية من قلب العاصمة قبل أن تحوله سلطات ولاية الخرطوم إلى مايعرف الآن بميدان (جاكسون)، فاستغرب الناس كيف بالقائمين على أمر ولاية الخرطوم ينهون ذكرى رجل من أهل الدين كانت سيرته على كل لسان، وقد يكون هو السبب في أن جعل موقف المواصلات عند (قبره) لأن الناس تزوره، وتعمل سلطات ولاية الخرطوم على احياء ذكرى رجل (خواجة) اسمه (جاكسون) بعد أكثر من خمسين عاماً م? الاستقلال، والخواجات الذين لازالت أسماؤهم تذكر حتى الآن هم الخواجة (كوبر) مؤسس سجن كوبر، والخواجة (كوستي) الذي أطلق اسمه على مدينة كوستي، والتي قد تكون أسست على عهده، والاسم الاعجمي الآخر هو (سان جيمس) وهو تقاطع ملتقى طرق في قلب العاصمة الخرطوم في شارع الجمهورية، وتقاطع مع عدة طرق منها شارع (عطبرة) وشارع (أبو سن) لتكون تقاطعات في شكل (العلم) البريطاني المعروف، ورغم ان التقاطعات تحمل أسماء وطنية مثل (عطبرة) و(أبو سن) إلا أن (سان جيمس) لازال حاضراً، ورغم ان سلطات ولاية الخرطوم أحيت ذكرى الخواجة (جاكسون) من ?ديد إلا ان قيادات الولاية لاتجد حرجاً في أن تتحدث عن الاستلاب الثقافي والغزو الفكري دون أن تدري انها ساهمت بشكل كبير في هذا الأمر، ورغم ان الفضائيات قد أراحت الناس من الذهاب إلى السينما في الأمسيات ورغم انها أشد خطراً من السينما إلا ان هذه الفضائيات أراحت الناس من سينما الخواجة (برمبل) ومن على شاكلتها في مدني وبورتسودان وما يعرف بسينما الخواجة، وهي بالتالي أفضل من سلطات ولاية الخرطوم في وأد أسماء الخواجات. ونعود لذلك المناهض لنظام مايو والذي وزع منشورات في ميدان (أبو جنزير)، فقامت السلطات الأمنية بالقبض على الرجل وبسرعة جمعت المنشورات من المواطنين واكتشف رجال الأمن ان المنشور (أبيض) لاتوجد فيه أية كتابة تدعو للتظاهر أو التحريض ضد النظام، وسأل أحدرجال الأمن الرجل (وين الكتابة) فرد الرجل بسخرية (هي عايزة كتابة؟!!). وكأن الرجل يقول ان الوضع في تلك الأيام من حكم نميري وصل حداً لا يحتاج فيه الأمر لكتابة (منشور). تذكرت هذه الواقعة مع حديث الدكتور نافع علي نافع الرجل النافذ في الحزب الحاكم وهو يشير إلى ان المظاهرات التي حدثت في (بري) وفي بعض المناطق كان وراءهارجل شيوعي مقتدر يغدق على المتظاهرين من أجل احراج الحكومة أو اضعاف النظام، وقد يكون اختيار منطقة (بري) ليس مصادفة ففي (بري) يسكن معظم قيادات الحكومة النافذة منهم بالتأكيد الدكتور نافع علي نافع، ووزير الخارجية علي كرتي، ومن قبلهم كان (الترابي) والتي تعرف الآن بالمنشية وهي منطقة من امتدادات (بري) ولكن بري معروفة بأنها منطقة (شعبية)، والمنشية منطقة (ارستقراطية) وال?رق كبير أو كما قال الشاعر اسماعيل حسن الفرق بين الديم والعمارات شارع ظلط ولكن هو فرق سنين كما يقول معنى بيت الشعر، وقد تكون علاقة بري بالحزب الشيوعي هي أن السيدة فاطمة أحمد ابراهيم وهي من قيادات الحزب الشيوعي كانت تنافس في هذه الدائرة في انتخابات عام (1986م)، وهي الانتخابات التي يعتبرها البعض المرجعية الوحيدة لأنها لم تقم بعدها أية انتخابات معترف بها كما يقول السيد الصادق المهدي. نافست السيدة فاطمة أحمد ابراهيم مرشحين من القوى السياسية التي كان لها وزنها في ذلك الوقت ومن بينهم مرشح الجبهة الاسلامية القومية الأستاذ عثمان خالد، والجبهة الاسلامية كانت تراهن على العاصمة القومية لأنها تعلم ان الولايات لها ولاء طائفي لا يمكن اختراقه بسهولة؛ لأن العاصمة فيها قوى مستنيرة، فلهذا خرج الصادق المهدي منها وترشح في (الجزيرة أبا) ، وكذلك المرحوم عمر نور الدائم ال(نعيمة) في النيل الأبيض، وذهب الشريف زين العابدين إلى مدينة (الحوش) في ولاية الجزيرة، وكما معلوم حسمت دائرة بري لصالح الأستاذ عثمان خالد?مضوي وخسرت فاطمة الدائرة. وظهرت في ذلك الوقت بعض الأهازيج من أنصار الجبهة الاسلامية تمجد تلك الانتصارات التي تحققت لها في الخرطوم حيث فازت بمعظم الدوائر وخرجت منها دوائر على أصابع اليد الواحدة منها دائرة الديوم لمحمد ابراهيم نقد ودائرة في بحري للشيوعي عز الدين علي عامر ودائرة الطائف لحزب الأمة فاز بها عبد الرحمن فرح. فخرجت تلك الأهازيج تمجد انتصارات الجبهة الاسلامية في ذلك الوقت ومنها: يا الله يارحمن فوزت علي عثمان - دستورنا والقرآن لا بعثي لا شيطان شيطان نقد وأنا مالي الاسلام دخل في دياري ومن تلك الأهازيج التي مجدت فوز الأستاذ عثمان خالد مضوي على الأستاذة فاطمة أحمد ابراهيم في دائرة (بري) تقول: يا الله يا خالق فوزت عثمان خالد وحرقت قلب الكافره بالنار حرق وأنا مالي الاسلام دخل في دياري ونلاحظ ان هذه الأهازيج منسوجة على أغنية شهيرة في ذلك الوقت للفنانة حنان بلوبلو تقول (الخضار مرق لي وداري) وكانت الصحف في ذلك الوقت تنقل أخبار الفنانة حنان بلوبلو لأنها كانت نجمة (الشباك) ومن بين الأخبار هي ان بلوبلو أحتفلت (بالمليون الأول) إي انها استطاعت أن تجمع (مليون جنيه) وهو رقم مهول في ذلك الوقت. وبعد فترة قصيرة من تلك تتوارد الأخبار بأن (بلوبلو) احتفلت بالمليون الثاني، في حين ان (خزينة) الحكومة تعاني شح الموارد بعد أن موَّل منها الصادق المهدي 35 مليون وعز الدين علي عامر 600 ألف جنيه زعموا انها قيمة ?متلكات صادرها منهم نظام نميري. والملاحظ ان هذه الأهازيج جاءت من شباب محسوبين على الجبهة الاسلامية في الوقت الذي كان سائداً ان هذه المسائل الفنية دائماً ما يوظفها الحزب الشيوعي لاستمالة الشباب، وللحزب الشيوعي وتنظيماته الشبابية والطلابية مجموعات غنائية تعرف (بالكورال) وغالباً ماتتكون في الجامعات والتنظيمات الشبابية خارج أسوار الجامعة، وكانوا يضفون على بعض الفنانين الكبار والأكثر شهرة نوعاً من اليسارية، ويتخذون من (الرمزية) في أغانيهم نوعاً من المناهضة للأنظمة مثل الفنان محمد وردي والفنان أبو عركي البخيت والفنان المرحوم مصطفى سيد أحمد. ولكن بهذه الأهازيج دخل شباب الجبهة الاسلامية هذا المضمار الذي كان (حصرياً) بلغة الفضائيات على أحزاب اليسار ومن بينها الحزب الشيوعي، وتطور هذا الأمر بعد انقلاب الانقاذ الوطني والذي دعمته الجبهة الاسلامية لتجد الفرق (الانشادية) مساحة واسعة من أجل تحفيز ورفع الهمم ودفع الشباب إلى الجهاد، ورفع الروح المعنوية للمجاهدين في مسارح العمليات في ذلك الوقت قبل أن تتوصل الحكومة إلى اتفاق السلام في نيفاشا (2005م) لتجد هذه الفرق الانشادية (بوار) لسلعتها ومن قبلها برنامج (في ساحات الفداء) ولا عزاء للأستاذ اسحق أحمد فضل ال?ه والذي دبت فيه هذه (الروح) من جديد بعد انفصال الجنوب وتطورات الأحداث في جنوب كردفان والنيل الأزرق. وقد لا يكون اختيار منطقة (بري) للتظاهر مجرد صدفة، وقد يكون يحمل عدداً من الاشارات هي أن المواطنين أرادوا ان تسمع القيادات التي تسكن فيها إلى (أصوات الشعب) وربما تكون الاشارة الثانية هي ان هنالك قادمين (جدد) أصبحوا من سكان (بري) بل تطاولوا في (البنيان)، بينما السكان الأصليون (هذه على وزن الهنود الحمر) لا زالوا في مساكنهم التقليدية يعانون في مواسم الأمطار والصيف والشتاء. وكما قال ذلك المناهض لنظام مايو ان الأمر لا يحتاج ل(كتابة)، فالأسعار مرتفعة جداً والحكومة تعلم ذلك جداً، فالأجور (ثابتة) في مكانها وعند آخرين (فرعها في السماء) وهؤلاء بالتأكيد قلة، والأمر يحتاج لتحرك سريع وكما قال (نقد) ان أهالي (بري) ليسوا (بهائم) حتى يحتاجون لمن يحركهم، ولكن في ميدان أبو جنزير لم يجد نقد في ذلك اليوم أحداً من قيادات المعارضة، وقال قولته المكتوبة في كرتونة (حضرنا ولم نجدكم) ويبدو ان قيادات (المعارضة) هي التي تحتاج لمن يحركها. ان العاصمة التي اختارت عام 1986م معظم نوابها من الجبهة الاسلامية مثل الأستاذ علي عثمان طه وأحمد عبد الرحمن، وعثمان خالد وعبد الجليل النذير الكاروري ومهدي ابراهيم، وحسن نور الدين وأحمد الأمين وغيرهم،لم يحتاج هؤلاء إلى أن يذهبوا إلى مسقط رأسهم في ولايات السودان المختلفة حتى يدخلوا البرلمان، ولكن نافسوا حيث (الوعي) و(التعليم) والاقناع بالبرنامج الانتخابي، ولكن تظل (السياسات) هي التي تهزم (البرامج) والرقابة (تضعف) التنفيذ، فيجب على الحاكمين اعادة الأمور إلى نصابها والاهتمام بالمواطن الذي لم يعد (بهيمة) ليحركه ?لحزب الشيوعي أو غيره، وانما هناك احتياجات حقيقية يجب على الحكومة ان تسعى لتوفيرها بما يتناسب على الأقل مع الحد الأدنى للأجور، وبعدها لا يمكن ان يطرح سؤال هل سكان مدينة بري (شيوعيون) أم اسلاميون؟