الأخ الأستاذ النور أحمد النور تحية يعطرها الود.. آمل أن يجد قلمي حيزاً بزاويتك. جرفني تيار المهنة المقدسة «التعليم»، وانشغل ذهني وبصري بالاطلاع بإمعان وشغف بالغ لتلك المادة الدسمة والناقدة، وبأرقامها المفزعة، وقد فاض بها وجداني خوفاً ورهبة، ومستقبل فلذات الأكباد يتوه في وادٍ صامت قاتم! تلك المادة التي دونها يراعك الأنيق الحزين بزاويتك المقروءة الصادقة «حروف ونقاط» بتاريخ 2011/10/15 وتحمل العنوان «حديث الأرقام». حقيقة لقد اهتزت مشاعري، وتوجست خيفة على مستقبل التعليم بالسودان! وتلك الصورة الغاضبة والمتشائمة التي رسمتها ريشتك المترعة بالحزن! لقد أصاب سهمك ثلاثة محاور وهي: أولاً مآسي الطفولة بالسودان. ثانياً: ضمور بل بؤس حال العملية التربوية التعليمية. ثالثاً: السمة الحضارية، والاهتمام بالمعلم والتنمية البشرية بالدول المتقدمة مثل اليابان وماليزيا. وأعني بذلك العمل على صناعة وصقل الانسان فهو المحرك الأساسي لعملية التنمية بالمجتمع، وهو الذي يدفع بالأمة نحو الرقيّ والازدهار. ومقالك يناشد بشدة الاهتمام بالمعلم الذي أُهمل، وسُدت في وجهه كل منافذ السمو والنجاح بوطننا السودان. المعلم الكفء كما يبدو من روح مقالك هو حجر الزاوية «corner stone» في عملية ن?اح أو إخفاق عملية التعليم، وأنه العنصر المهم في عملية التدفق السلس للمعرفة، فيستوعبها طالبها بسهولة ويسر. ومنذ الانطلاقة الأولى للتعليم النظامي بالسودان (1900) وبعد انكماش موجة التعليم غير النظامي (الخلاوى) وحين بزوغ فجر معهد التربية ببخت الرضا، والذي أطل بوجهه المشرق عام 1934، وبدأ مشواره التربوي التعليمي يتصدره أفذاذ ورواد التعليم يومذاك (المستر قريفس، المستر هودجكن، عبد الرحن علي طه، مكي عباس، التجاني علي وسر الختم الخليفة ونصر الحاج علي). وبعد هذا التحول الهائل في نظام التعليم كرست بخت الرضا جهدها المض?ي لتحقيق أول مهام انشائها وهو تأهيل وتدريب المعلم، كما وضعت فلسفة ونهجاً للتعليم بالسودان محوره الرئيس «المعلم» الذي كان يتم اختياره وفق معايير محددة، واختبارات شاقة، ثم يخضع للمراقبة يتم خلالها صقله ليتوافق مع البيئة الريفية التي سينغمس فيها عند انخراطه في العمل. كما يزود المعلم يومذاك بالعلوم المعدة بالمنهج القويم، فكلها دروس تطبيقية وعملية، ويزاول أنشطة تربوية (الرحلات، الجمعيات المدرسية) وكلها خير زاد لصقل الانسان القويم الفاضل، وهي ذخيرة يزود بها تلميذه بجانب حصيلته الأكاديمية. لتقويم المعلم وضع المست? قريفس ورصيفه عبد الرحمن علي طه كتابين عن الأخلاق الفاضلة هما: «مبادئ الأخلاق» والآخر «تدريب الأخلاق»، وقد تم توزيعهما على كل مدارس السودان يومذاك. لماذا لا ننفض الغبار عنهما ونعيد طباعتهما لنضعهما بمكتبة المعلم إن كانت له مكتبة؟ كان للمعلم يومذاك دور رائد في تنقية وتنمية المجتمع، فالمعلم هو «دينمو» المجتمع، فهو إمام وخطيب المسجد، وهو حكيم ومفكر القرية، وهو الحكم والقاضي، يفك النزاعات التي كثيراً ما تنشب بين القبائل المتناحرة! كان المعلم نجم المجتمع، الساطع، ويكن له الجميع الحب والاحترام والتقدير، فقد كان ?لمثل الأعلى لتلاميذه، فهو قدوتهم الحسنة، مسلكاً وعملاً. ولكن تبدل الحال اليوم، فصار المعلم يقبع في أسفل قائمة الفئة المجتمعية، فقد أفل نجمه، وخفت صوته، ثم انقطع حبل الود بينه والمجتمع والأسرة بل تلميذه الذي يعلمه رسم الحرف ونطق الكلمة. وارتبط المعلم بقائمة المتسولين، ولكن بالعلم، يتجول من مدرسة لأخرى من أجل حفنة من الدنانير، لتسد رمقه! وصار التعليم مرتعاً خصباً للاستثمار، ضاربين بعرض الحائط كل الأهداف والقيم التربوية التي حُددت لتربية النشء الصالح! وهكذا اندثرت بل وئدت مكانة وسمعة المعلم، التي كانت قد ملأت?الآفاق، وفقدت اليوم مكانته السامية. يحكى أن امرأة طموحة، قد جاءها شاب يطرق باب الزواج من ابنتها الوحيدة. وبعد أن استمعت لطلبه فرحة، بادرته بالسؤال «أها يا ولدي إنت شغال شنو؟» فرد عليها «شغال معلم» فقالت له وباستخفاف «والله أخير من قعاد ساكت!» فوجم الشاب، وخاب أمله. فهكذا لخصت هذه المرأة حال المعلم الحالي التعيس! فنحن اليوم نأمل والأمل ضعيف أن يبادر مؤتمر التعليم المرتقب (نهاية ديسمبر) أن يضع فلسفة ومنهجاً وبرنامجاً متدرجاً متفائلاً يعيد للمعلم بسمته العذبة، وشموخه وألقه وتألقه، وأن تتحقق أمنية الأخ رئيس الجمهورية عمر حسن أحمد البشير بأن يصبح للمعلم الراتب الشهري الأعلى في البلاد، فهذا ما قرره الرئيس قبل أعوام مضت! يومها سنفك من معلمنا أغلال التسول بالعلم والمعرفة، ويلتفت لمدرسته الوحيدة وتلميذه الوحيد. فيتحقق أمل المعلم، ونحن نحتفل هذا الأسبوع «باليوم العالمي للمعلم» الذي كرمته الدول المتحضرة. فدولة السويد تمنح ال?علم أعلى راتب في الدولة، وتكرمه كل عام، وهو دائماً في الصف الأمامي عند الاحتفال بالمناسبات القومية، وتعنى الدولة النرويجية به وبأسرته. فأين نحن من هؤلاء؟ ولكن دعنا نتفاءل وأنا أستمع الآن لخطاب الأخ النائب الأول وهو يبشر بمستقبل زاهر للتعليم بالسودان ويرفع معنا شعار «التعليم يبني المستقبل». شكراً لك أخي النور لسعة صدرك.. والله المستعان * خبير تربوي