من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    ((المدرسة الرومانية الأجمل والأكمل))    من يبتلع الهلال… الظل أم أحبابه؟    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    كامل إدريس يصدر توجيهًا بشأن الجامعات.. تعرّف على القرار    شاهد بالفيديو.. رجل سوداني في السبعين من عمره يربط "الشال" على وسطه ويدخل في وصلة رقص مع الفنان محمد بشير على أنغام الموسيقى الأثيوبية والجمهور يتفاعل: (الفرح والبهجة ما عندهم عمر محدد)    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    رئيس الوزراء يطلع على الوضع الصحي بالبلاد والموقف من وباء الكوليرا    الجيش الكويتي: الصواريخ الباليستية العابرة فوق البلاد في نطاقات جوية مرتفعة جداً ولا تشكل أي تهديد    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    خطوة مثيرة لمصابي ميليشيا الدعم السريع    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    كيف أدخلت إسرائيل المسيرات إلى قلب إيران؟    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    خلال ساعات.. مهمة منتظرة لمدرب المريخ    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معركة جديدة بين ليفربول وبايرن بسبب صلاح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    مسؤول سوداني يطلق دعوة للتجار بشأن الأضحية    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحل في الساعة العاشرة مساء اليوم العاشر من شهر عشرة 1881م
دانيال كمبوني ..المعلم العظيم
نشر في الصحافة يوم 28 - 10 - 2011

مرت علينا قبل أيام الذكرى ال130 لوفاة دانيال كمبوني، اذ رحل تحديدا عند الساعة العاشرة مساء من اليوم العاشر من شهر اكتوبر 1881 ، في تلك الليلة دق ناقوس ارسالية الخرطوم دقاته الحزينة ، دقة ، دقتان ، ثلاث ، وكان قبله صراخ الاولاد والبنات في الارسالية كافيا لإشاعة الخبر المؤلم ، اثقل نبأ جثم على صدر افريقيا ، الا هو خبر موت المنسنيور ، كان الموقف محزنا لا يطاق ، وفجأة انتشر النبأ في كل مكان ، عبر الجبال و البحار ، في الصحاري والانهار ، ذهول واسى عم كل الاقطار ، وهناك في ايطاليا كان للخبر دوي مهيب ، عندما ع?م والده بما حدث ، وأن آخر ابنائه الثمانية قد رحل عن هذه الفانية كانت ردت فعله على هذا المنوال ( اني اشكر الله انه مات في موقعه كجندي مخلص ) ، ولكن تعزية بخيت كايندا النوبي الكفيف كانت اكثر تأكيدا على عظمة المنسنيور ، اذا قال ( ان اسم كمبوني سيظل خالدا على هذه الارض الحارقة ، وان كل اخوتي الاحياء والذين سيعيشون سوف يكرمونه كمخلص صالح ).
صرخة المستقبل اللاواعية :
( افريقيا ... افريقيا ) يسمع مرارا شيوخ واهالي قرية ( ليمون ) الصغيرة الضاحكة ذات البيوت المزخرفة واعمدة المرمر ، بين مرأة بحيرة ( غاردا ) الزرقاء واخضرار الزيتون ، يسمعون صراخا من اعالي الجبل الجاثم فوق القرية ، هاتين الكلمتين ( افريقيا ... افريقيا ) كلمتان كثيرا ما كان يرددهما الولد الصغير النشيط ، دانيال ، الذي كان يتسلق الجبال من وقت الى آخر ، بنظرة متوجة نحو ارضٍ بعيدة ، يطلق صرخة المستقبل اللاواعية آنذاك ( افريقيا ... افريقيا ) ، ابصر دانيال النور في 15 مارس 1831م ، وهو الابن الرابع من بين ثمانية اول?د قضوا نحبهم في عمر يانع ، اذ ولد في ( تيسول ) احدى مزارع الليمون الكثيرة المحاطة بالزيتون ، حيث تستطيع ان تتمتع بمنظر البحيرة ، حيث تؤمها الطيور لقضاء فصل الشتاء ، كان والدا دانيال ( لويدجي كمبوني و دومنيكا ) يعملان كبستانيين ، ويسكنان في دفيئة يملكها سيد ثري ، ويكسبان العيش بتضحيات كبيرة ، ولكنهما كانا في المقابل غنيين بالايمان والفضيلة .
درس دانيال الابتدائي بالقرية الجميلة التي احتضنته ثم ذهب الى فيرونا ليسجل اسمه كتلميذ غير مقيم في المدرسة الاكليريكية الاسقفية لان الاقامة تتطلب منه رسوماً مالية اكثر من طاقته ، ثم انتقل للدراسة في كلية مازا ، التي انشأت لتكون ملاذاً للطلاب الفقراء والموهوبين الذين لا يستطيعون تسجيل اقامة داخل مدارس الدولة ، بعد تخرجه فيها انضم الى مجمع نشر الايمان الذي كان يعمل على انشاء ما يسمونه النيابة الرسولية الى اواسط افريقيا كعضو بسيط في عام 1846م .
نقطة تحول :
عندما زار الاب فنكو مدينة فيرونا الايطالية ، قصد المدرسة التي كان قد تربى فيها ، ووجه خطاباً حماسياً وحاراً للطلبه ، وكان من بين الذين استمعوا الى كلامه حينها الشاب دانيال ، والذي صمم في تلك المناسبة بالذات أن يوقف حياته لخدمة افريقيا .
واول زيارة لدانيال كمبوني الى السودان كانت في عام 1857م ، مع مجموعة من اعضاء كلية مازا ، مات اثنان منهم بعد وصولهم بفترة وجيزة ، اما كمبوني فقد اضطر للعودة الى ايطاليا في عام 1859م نسبة لتدهور صحته آنذاك ، ولكنه بالرغم من ذلك قرر ان يكرس حياته للعمل من اجل الافارقة ، وبعد ان قضى فترة النقاهة في بلدته ابحر الى الاسكندرية ثم عدن وبعض الموانئ والمدن في سواحل افريقيا ليختار صبيانا من الافارقة الذين امتازوا بذكائهم ، لينقلهم الى كلية مازا وغيرها من المعاهد الخيرية لينالوا تربية تنفع مواطنيهم عندما يعودون الى دي?رهم.
وعندما عزم دانيال على الذهاب الى افريقيا قام بالعمل كمتطوع بين المصابين بالكوليرا في فيرونا ، باذلا ذاته ليلا ونهارا ، نائما على مقعد غير مريح ليكون دايما على اهبة الاستعداد لمساعدة المرضى ، هكذا تأهب دانيال للذهاب الى افريقيا ، لانه كان يعلم بأنه ذاهب الى قارة الاسود ، وكان يعلم انه سوف يجابه العديد من الصعاب ، لذلك جاء استعداده مبكرا وشاقا .
شاب مؤهل لتحمل الصعاب :
عندما كان كمبوني في 31 من عمره كان يتقن عشر لغات ، من بينها اللغة العربية ، وبعض اللهجات الافريقية المحلية ، وكان متحدثا جيدا ، يعرف ماذا يقول ، وكيف يقنع ، عندما يتكلم يشع طراوة وأملا ، يعيش من الامل لا من الذكريات المليئة بالحنين .
وكان كمبوني شخصا متفائلا ، يحب الناس ، ويحب التحدث اليهم والاستماع الى مشاكلهم ، يعظهم ، لقد كان محبوبا من الجميع ، كما كان كاتبا متميزا ، يكتب المقالات والخطابات والرسائل ، لقد كتب العديد من الرسائل وهي تشكل الآن منجما تاريخيا وادبيا ، وكانت مقالاته تجابه معضلات تلك الفترة من العبودية العظمى التي كانت مستشرية في البلاد ، يشرح فيها الحالة المأساوية التي كان يعيشها سكان السودان .
وفي زمان كمبوني كانت افريقيا عالماً مجهولاً تماماً لأغلب الاوروبيين ، لذلك اعتبروها موضوع استكشاف واحتلال وتسلط ، ومصدراً جديداً لجلب المواد الخام والعبيد ، ولكن بالمقابل كان هنالك آخرون يحلمون بأفريقيا مختلفة تماما ، اذ وضعوها موضع تربية وحضارة ، وكانت لهم دوما افريقيا موضوعا وليس شخصا ، وكان كمبوني ضمن هؤلاء الفئة الاخيرة ، اذ احب افريقيا لدرجة بعيدة ، وظهر هذا جليا في اقواله وافعاله .
افريقيا أو الموت :
كانت ارسالية اواسط افريقيا بالخرطوم قد اغلقت منذ عام 1862م ، ولكن رغبة كمبوني في مساعدة شعب افريقيا على الخلاص كانت اقوى وكافية لمواجهة اهوال وتحديات القارة السوداء ، لذلك اعد خطة لاعادة فتح الارسالية والعمل في افريقيا ، وذلك بالاستعانة بالافارقة انفسهم ، وساعده في ذلك مقدرة الافارقة على ادارة شؤونهم الدينية والاجتماعية بأنفسهم ، وفي هذا المجال كان كمبوني سباقا في ( افرقة الافريقيين ) سياسيا وثقافيا واجتماعيا ، ومن اجل هذا طاف جميع العواصم الاوروبية ، معلنا خطته وداعيا اليها ، بغرض جمع التبرعات لانجاز مه?ته ، ولكنه لقى الكثير من المعارضة ، وبالاخص من رئيس كلية مازا ، الذي رفض اقتراح اعادة فتح ارسالية اواسط افريقيا بالخرطوم ، لكثرة الصعوبات التي واجهها المشروع ، الا ان كمبوني لم يستسلم ، اذ صمم بأن يحمل هذا العبء لوحده ، وأن يواصل العمل دون مساعدة من كلية مازا .
البداية من أرض النوبة :
في عام 1873م عاد الاب كمبوني الى الخرطوم للمرة الثانية ، وذلك بعد ان قام قداسة البابا بيوس التاسع بتعيينه نائبا رسوليا لإرسالية اواسط افريقيا ، واعطاه السلطة لاعادة فتحها ، وكان مع الاب كمبوني دفعة من المرسلين المساعدين له واثنين من الافارقة الذين تخرجوا في كلية مازا ، وكان الاب كمبوني قد اعطي امرا لإثنين من القساوسة بالذهاب الى الابيض لبناء مدرسة وكنيسة ، وذلك عام 1871م ، وعندما وصل الاب كمبوني السودان قدم نفسه للناس على هذا المنوال ( حب شبابي الاول كان لأفريقيا التعساء ، كانت افكاري وخطواتي دوما لكم ، ان? ابوكم وانتم ابنائي ، اعود اليكم لئلا اتوقف ابدا ، وان اكون لكم ، يلقاني الليل والنهار ، الشمس والشتاء ، متأهبا دوما لتلبية حاجاتكم الروحية ، الغني والفقير ، المتعافي والمريض ، الشاب والشيخ ، رب البيت والخادم ، لهم دوما مدخل الى قلبي ، خيركم خيري ، اوجاعكم اوجاعي ، اسعد ايامي يكون يوم استطيع ان اهب حياتي لكم ) .
بدأ الاب كمبوني عمله من جبال النوبة ، وهي في ذلك الوقت كانت منطقة مغلقة ، اذ لم يصل اليها اي من التجار بعد ، اذ قام بفتح مزرعة بالدلنج لتدريب الاهالي على الزراعة ، واقام مزرعة اخرى بالقرب من الابيض في قرية ( ملبس ) وطبق الاب كمبوني في كل مؤسساته تلك الاسلوب المعروف اليوم ب( العون الذاتي ) ، اذ كان يعمل على تدريب الاهالى على الاكتفاء الذاتي ، لاسيما في اعمال الزراعة ، وكان يشجعهم على ان يؤمنوا معيشتهم بأنفسهم ، كما قام بفتح مركز آخر في بربر ، وكان في نيته ان يقيم مركزا في القضارف وبعض مدن الجنوب الا ان و?اة الكثير من مساعديه حالت دون ذلك .
وفي عام 1877م قام البابا بتنصيب الاب كمبوني اسقفا لاواسط افريقيا ، و وفقا لاعماله الجليلة قام الخديوي اسماعيل باشا بإعطائه السلطة المطلقة في تحرير من يشاء من الذين يلاقيهم في حالة العبودية ، وقام بمنع تجارة الرقيق في كل اشكالها وانواعها .
المطران أبو السودان :
يقولون اذا اردت ان تعرف شخصا على المستوى العميق ، انظر الى طموحاته ، تطلعاته ، احلامه ، افعاله ، تصرفاته في الامور الجسام ، وما يهجس به في خلوته ، ان كانت تدور حول اشياء شخصية وصغيرة فهو شخص صغير ، اما اذا كانت تدور حول نفع عام وتحولات كبيرة فهو بلا شك شخص عظيم ، لان ما يقدر عليه البشر من خير او شر يظل مقيدا بالظروف والامكانات المتاحة ، اما ما يحلمون به ويتمنونه فإنه متصل بأرواحهم ، واعماق ذواتهم ، وطليق من كل قيد ، لذلك فإنه يعبر عنهم تمام التعبير ، وهكذا كان الاب كمبوني ، كبيرا في احلامه وتطلعاته ، وعظيم? بأفعاله وتصرفاته .
في عام 1878م عندما ضربت المجاعة كل اقاليم السودان ، بالاضافة الى فيضان النيل الاستثنائي الجارف عام 1879م والذي سبب الكثير من الكوارث في الانفس والاموال ، وعاث فسادا كبيرا ، نقص مرعب في المواد الغذائية ، ووباء هائل ، وجد المنسنيور نفسه امام مشهد مأساوي ، فذهب الى اوروبا طالبا المعونة من اجل آلاف السودانيين المنكوبين من الفيضان ، وعاد ووزع عليهم كل ما لديه من مال وتبرعات ، واصبح يعرف في ذلك الزمان باسم ( المطران أبو السودان ) .
خلاص أفريقيا على يد أفريقيا :
في السودان اليوم كلمة كمبوني مرادفة لكلمة كنيسة وتربية ، اذ تقوم مدارس ومؤسسات كمبوني بتخريج آلاف التلاميذ والتلميذات في كل المستويات ، وهي مدارس مفتوحة للجميع ، مسيحيين ، مسلمين ، وارواحيين .
بث الاب كمبوني في روح الشعب السوداني عزيمة الحكماء ، ونفث هوية صادقة افردها باهتمامه ، مقدما لهذه الغاية حياته الفتية ، وبذر الاب كمبوني في السودانيين حبة الخردل والتي حملت خصبا وحياة جديدة للمجتمع في السودان ، ويعتبر الاب كمبوني تحديا مفتوحا للأمم والشعوب المتقدمة لكي يقبل السودان ودول اخرى مهمشة في كونية انسانية صادقة ، اذ ناضل الاب كمبوني في اكثر القرون اثارة للجدل في افريقيا ضد الظلم والتجاوزات الانسانية والاستعباد التي كانت متفشية في السودان ، ليس هذا فقط بل اصبح الصوت الجريء لمن لا صوت لهم ، وبطل الم?اواة امام عظماء الامم .
وبالمقابل نجد بعض المفاهيم الخاطئة والتي تسعى الى نشر الافتراءات على عمل كمبوني في السودان ، ولكن كما يقولون فإن العبرة بالخواتيم ، فاذا كان الاب كمبوني هو رائد التنصير في افريقيا والسودان ، فإنه بالمقابل هو المؤسس الحقيقي للتعليم المنتظم في السودان ، وما مؤسساته الراسخة على تخوم السودان الا دليل قاطع على شمولية رسالته ونيته الصادقة في التربية والتعليم كمبدأ اساسي ، اذ درس وتخرج في مدارس كمبوني العديد من الطلاب ، والآن لهم اسهامات مقدرة في الساحة العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية للسودان الحديث .
مدارس كمبوني :
ان النظر الى تجربة مدارس كمبوني في السودان عموما ، نجد انها خلقت نسيجا اجتماعيا فريدا ، وهي بالكاد تكون سودانا مصغرا ، اذ استطاعت ان تحوي كل افراد المجتمع السوداني ، لتشكل منهم كتلة صلبة ومتجانسة ، ففي مدارس كمبوني تجد آدم ولد الغرابة ، ومحمد ابن اواسط البلاد ، وشول القادم من الجنوب ، وتية صبي جبال النوبة ، واحمد جنى الشمالية ، وهكذا دواليك ، كل من هؤلاء قادمين من بيئة مشبعة بعادات وتقاليد معينة ومتباينة ، وقيم تختلف عن البيئات الاخرى الا فيما ندر ، وكانت كمبوني هي الوعاء الذي تم فيه انصهار كل تلك الثقافات?والموروثات ، ليكون الوطن اروع بهذه التكوينات الجديدة التي نتجت عن كل ذلك التمازج .
ومسيرة كمبوني لم تقتصر على الجانب التعليمي فقط ، اذ كانت ولا تزال تولي اهتماما مقدرا بالانسان كقيمة تنموية ، ورأس مال اي دولة ، لذلك اهتمت بتربية الجوانب الاخرى من هذا الانسان ، والذى هو احد تلاميذها ، اذ كانت المناشط الرياضية حاضرة بقوة ( لا تخلو اي مدرسة من مدارس كمبوني من ملعب لكرة السلة وآخر للكرة الطائرة ) ، وكذلك اهتمت بالجوانب الثقافية والادبية ، وهذا ان دل على شيء انما يدل على بعد نظر ادارة مدارس كمبوني المستقبلية ، وذلك متمثل بالمساهمة في اعداد هذا الانسان بدنيا وجسمانيا في خط متوازي مع اعداده الا?اديمي والعلمي ، لتكون المقولة المعروفة حاضرة بقوة ( العقل السليم في الجسم السليم ) وهي احدى اهداف مدارس كمبوني للرقي بالانسان وتهيأته التهيئة السليمة لمواجهة تحديات المستقبل بذهن متفتح ونشيط وبدن قويم وسليم .
متشكرين ومقدرين :
من لا يشكر الناس لا يشكر الله ، شكرا الاب كمبوني ، شكرا على كل شيء جميل فعلته لنا ، فلن ننسى فضائلك الكثيرة علينا ، لانك ما تزال فينا ، وقديما قال الفيلسوف الالماني نيتشه «ان ما يؤسسه عظماء الافراد يبقى مجسما لشخصيتهم الى ان ينمو ويأتي بثماره» وهذا ما جسّده الاب كمبوني في حياته ، اذ قام بوضع منهج ورؤية لمجتمع متسامح وشجاع ، ورسخ معاني التكافل والتعاضد بين افراد المجتمع ، ووهبنا ثقافة ان نعيش في محبة ووئام ، وان نكون متساوين في حقوقنا الانسانية الاساسية وكذلك في الواجبات ، والوسائل لحياة كريمة وحرة ( هذا ق?ل الانفصال ).
ومن غير الممكن في مدى مقالة واحدة شرح الاعمال الكبيرة ، وحياة انسان عظيم كالاب كمبوني ، ولكن مما لا شك فيه ان الاب كمبوني احب افريقيا حباً لامثيل له ، وكان يحمل للسودانيين مودة خاصة جدا ، وكذلك بادله السودانيون الود بالود ، والملاحظ ان مدة عمل الاب كمبوني في السودان لم تكن طويلة ، ولكنها كانت عميقة ، وعظيمة الفائدة لشعب افريقيا والسودان ، لانه وجد الطريقة السليمة لتربية الافارقة وهي عن طريق ابنائهم .
الاب كمبوني مازال حاضرا في افريقيا ، عن طريق مرسليه والمدارس التي تحمل اسمه الى الآن ، وبالرغم من ان قبر الاب كمبوني الذي كان في حديقة الارسالية بالخرطوم قد هدم وخرب بواسطة جيوش المهدي ، وتم نقل رفاته لاحقا الى فيرونا حيث تستريح هناك في البيت الرئيسي الذي سمى باسمه ، الا ان اغلب جسد المنسنيور كمبوني قد اختلط بتراب السودان ، وهذا دليل على ان هبة نفسه التي قدمها لأفريقيا قد تحققت ماديا ، وان الاب دانيال كمبوني وارض افريقيا اتحدا واصبحا شيئا واحدا .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.