كانت حيثيات اليوم الدراسي تسير على مجراها الطبيعي، فهناك مجموعة من الطلاب انتظمت داخل صفوف الدراسة وأجراس تقرع معلنة بداية حصة دراسية جديدة، بينما يستعد البعض للجلوس للامتحانات.. طلاب كلية كمبوني الخرطوم بزيهم المميز الذي اختير له البنطلون الاسود والقميص الأبيض الموضوعة على صدره ديباجة تحمل شعار المدرسة.. ووسط فناء مدرسة الأساس ملعب للكرة الطائرة.. وما بين المدخل ومكتب المدير لم ألمح ما يشير إلى تغيير... بخلاف الخبر الوارد عن اتجاه بيع مدارس كمبوني. فمنذ عشرينيات القرن الماضي وحتى الآن، تتربع في قلب الخرطوم مبانٍ تجاوز عمرها الزمان، أخذت من الطابع الايطالي في فن المعمار روعته ودقة تصاميمه، فمباني كلية كمبوني يرجع تأسيسها إلى عام 1929م وهي مؤسسة تعليمية متكاملة تتكون من ثلاث مراحل تعليمية مرحلة أساس، ومرحلة ثانوية، بالاضافة إلى المستوى الجامعي المتمثل في كلية كمبوني لعلوم الحاسوب والتكنولوجيا.. والكلية واحدة من مجموعة المدارس التي أسسها دانيال كمبوني من أجل تأهيل الأفارقة للعمل في نطاق الكنيسة. وعندما جاءت الأخبار تتحدث عن أن استمرار مدارس كمبوني أصبحت تحفها جملة من العوائق، بدأت عندما باعت المطرانية الأرض الواقعة شمال مدارس كمبوني «بالخرطوم» لشركة استثمار تركية لتقيم عليها برج جوهرة الخرطوم بقيمة ثمانين مليار جنيه ولمدة ثلاثين عاماً.. ومازالت المشكلات تطل برأسها في ما يختص بقضايا الجنوب، فما كادت أوضاع الشماليين في جامعات الجنوب التي تم نقلها ينتهي أمرها، حتى أتت الأخبار مؤكدة اتجاه مطرانية الخرطوم لقفل مدارس كمبوني بالشمال، بعد أن أحدثت عمليات العودة الطوعية للجنوبيين ربكة في اوضاع هذه المدارس، اضافة لوجود مشكلات مالية وادارية أصبحت تهدد استمرارها بعد إعلان الفصل السياسي لدولة الجنوب. وبحسب «المركز السوداني للخدمات الصحفية» فإن عدداً من المعلمين بمدارس كمبوني قالوا للمركز انهم تقدموا بطلبات إنهاء خدمتهم لفشلهم في الحصول على مستحقاتهم المالية المتراكمة، مؤكدين أن انفصال الجنوب أثر على أوضاع مدارسهم، لأن المنظمات التي كانت تدعم تلك المدارس قد توقفت عن دعمها ووجهته إلى المدارس بالجنوب. ولكن ما أن يأتي الحديث عن مدارس كمبوني بالخرطوم، إلا وتتجه الأنظار إلى كلية كمبوني التي أسسها دانيال كمبوني. ولاستجلاء حقيقة الأمر اتجهت الى مباني الكلية، وما بين مدارس الاساس والثانوي تبين أن هناك خلطا في المسميات، وان مدارس كمبوني التي بدأت أعدادها تتناقص وتأثرت بعودة النازحين، هي في الأصل مدارس أنشأتها الحكومة بغرض توفير خدمات تعليمية لأبناء النازحين، وتدعمها المنظمات الكنسية العالمية ومنظمات الأممالمتحدة التي وجهت خدماتها جنوباً وتوقفت عن دعمها، مما أحدث ربكة داخل ما تبقى من مدارس. ولعل هذا ما أشار إليه وكيل مدرسة كلية كمبوني في مدارس الأساس الأستاذ جمعة محمد جمعة في حديثه ل «الصحافة» عندما قال إن هناك خلطاً في المسميات. وفي الحقيقة ليس كل مدرسة تابعة للكنيسة هي «كمبوني»، فمدارس الكمبوني هي مدارس تابعة لجمعية كمبوني، وهي مدارس تابعة للكنيسة الكاثولوكية، وهي مدرسة مسجلة في وزارة التربية ضمن سلسلة مدارس التعليم الخاص، وكلية كمبوني تم انشاؤها منذ عام 1929م قبل استقلال السودان مع بداية رحلات دانيال كمبوني الأولى، وقال إن مدرسته تضم الآن أكثر من «664» طالباً، ويمثل أبناء الجنوب أقلية لا تتجاوز نسبة 8% مقابل 92% من أبناء الشمال. ويقول جمعة حتى نسبة 8% كانت أقل من ذلك، وهذه الزيادة كانت في الآونة الأخيرة بعد توقيع سلام نيفاشا. ومن مدارس الأساس توجهنا صوب المدارس الثانوية لكلية كمبوني، حيث التقينا بالبابا بيبينو الممثل العام لبعثة كمبوني، والأب دومنيك مدير المدرسة الثانوية. وكان حديثهما متداخلاً ابتدره البابا بيبينو «FRBEPPINO» بالقول إن كمبوني منذ عشرينيات القرن الماضي في عام 1929م قام بإنشاء كلية كمبوني الجامعية، ومن ثم إنشاء المدارس.. ووفقاً لشروط العمل القانونية التي تحددها الإدارة الحكومية فإن منسوبي هذه المدارس يتلقون أجورهم واستحقاقاتهم كاملة وفي موعدها المحدد، ولا يوجد أي اتجاه لبيعها أو إغلاقها، وتقوم على أرض ملك حر تابعة لمؤسسة كمبوني، والمدارس التي تتبع للمطرانية الكاثوليكية إنما هي مدارس أنشئت لتقديم خدمة التعليم لأبناء النازحين، وهي مدارس على أراضٍ حكومية واتجهت المطرانية لتخفيض أعدادها من ستين مدرسة إلى ثلاثين، وهناك برنامج من قبل المطرانية لتخفيضها، ولكن لن يتم إلغاؤها تقديراً للأقليات الباقية، وهي مدارس تتلقى دعمها من منظمات الأممالمتحدة التي اتجهت لخدمة مناطق الجنوب ودعم التعليم بها، خاصة مع تزايد أعداد العائدين للجنوب بعد الانفصال. وقال البابا إن مدارس الكمبوني الباقية هي المدارس التابعة لمؤسسة كمبوني، ولن تتأثر بالوضع الراهن، وهي المدارس الموجودة في الخرطوم والسجانة وكمبوني بحري وفي أم درمان المسالمة، هذا بالإضافة إلى كمبوني بورتسودان والأبيض وعطبرة، بالاضافة للمدارس الدائمة الأخرى، وهي سان فرانسيس وفلا جلدا. وفي المكاتب الإدارية لكلية كمبوني كان لي حديث سابق مع مديرها البابا بيبينو الذي ابتدر حديثه معي وقتها بالقول بأن الكمبوني باعتبارها مؤسسة تكونت من سبعة عشر شخصاً عند التأسيس وكنت المسؤول عنهم منذ مراحل التأسيس الأولى للكمبوني وحتى الآن، وهم إداريون تابعون لمجلس الكنائس، فالكمبوني مؤسسة تعليمية أهدافها تنحصر في مجال التعليم ونشر العلم بعيداً عن الربح، وتم اعتمادها من قبل وزارة التعليم، وهي مؤسسات غير ربحية بخلاف ما قد يفهم. وعن وضع الكمبوني واستمرارية تقديمه لخدماته التعليمية في الشمال، قطع جازماً بالقول إنه أتى للخرطوم منذ حوالي واحد وخمسين عاماً، وكان وقتها من ضمن إداريي الكلية ثلاثة من أبناء الجنوب فقط، وحالياً هم خمسة وأربعون جنوبياً من ضمن الإداريين. والكلية تم تأسيسها في الخرطوم، وستظل في الخرطوم لأن أولوية تأسيسها كانت لخدمة أبناء شمال السودان وليس جنوبه، وأبناء الجنوب هم جزء من طلابها وهم أقلية. وعلى الرغم من أن الهدف الاساسي كان ابناء الشمال لم يتم منع أبناء الجنوب من الالتحاق بالكمبوني، خاصة ان المؤسسة تضم مجموعة مقدرة من أبناء الدول المجاورة، ومع الانفصال لن يتأثر الكمبوني بعودة الجنوبيين وأبنائهم لأن نسبتهم لا تتعدى ال 25% من جملة طلاب كمبوني الخرطوم، وحتى إذا ما اختاروا العودة للجنوب ورحلوا جميعاً فلن يؤثر ذلك على الكمبوني بشيء، لأن نسبة ال75% الباقية كلها من أبناء الشمال والأجانب من دول الجوار. وقال البابا عن أمر إنشائهم فروعاً بالجنوب، إن هذا الأمر يظل خاصاً بادارات التعليم بالجنوب في مدينتي جوبا وواو، إذا ما أرادت إنشاء مدرسة كمبوني لأبنائها العائدين هناك، وحتماً لن يكون ذلك مقيداً باسم كمبوني، والأمر برمته يقع على عاتق مجلس الكنائس بعيداً عن دوائر اختصاصنا. وكانت «الصحافة» قد اتصلت بالقيادي الجنوبي وعضو المؤتمر الوطني رئيس قطاع الجنوب قبريال روريج، الذي قال إن مبادئ الاستفتاء أقرَّت بكامل الحق لكل فرد، ولأبناء الجنوب الحرية الكاملة في البقاء في الشمال أو اختيار العودة جنوباً، وهذا بحسب الاتفاق المبرم ما بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني. وأكد روريج وقتها عدم الإقدام على إغلاق أية مدرسة أو منع أي طالب من الالتحاق بالمدرسة التي يرغب فيها، طالما استوفى شروط القبول والالتحاق بها. ليتضح الأمر جلياً بأن خلط المسميات وإطلاق اسم كمبوني على كل المدارس التابعة للكنيسة هو الخطأ الشائع، بينما مدارس كمبوني في الأصل هي المدارس التي أسسها دانيال كمبوني وتتبع لبعثة كمبوني، بينما المدارس التي تواجهها المعضلات تركتها الأممالمتحدة تكابد مصيرها ما بين البقاء أو الإغلاق بعد تناقص طلابها.. ولكن يبقى السؤال هل وضعت المطرانية حساباً لمصير الأقلية المسيحية الباقية في الشمال، أم أن البيع والإغلاق سيشمل جميع مدارسها؟