1- فاجأت الثورة التونسية كل العالم، حين انطلقت من تلك المحافظات المهمشة في «سيدي بوزيد والقصرين» وانتشرت في كل اجزاء تونس، بعد ان ترعرعت مسوغات الثورة الاجتماعية التي لم تكن تنتظر اكثر من عود ثقاب، سرعان ما قدحه الشاب «محمد بوعزيزي» بإقدامه على فعل تراجيدي شديد الرمزية مكثف الدلالة بعيد الصدى. ولم يكن «بوعزيزي» يدري ان شرارة الثورة التي اشعلها انها سوف تعبر الحدود الى كل الوطن العربي، وان بريقها ونورها سوف يعبر البحار والمحيطات الى كل العالم، وان اكثر من ثلثي سكان العالم من الشباب ينادون اليوم بالتغيير وال?صلاح، في المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واصبح العالم اليوم على اعتاب مرحلة جديدة من مراحل التطور التاريخي. 2- ان الربيع العربي الذي بدأ برعد وبرق ومطر وزلزل الارض العربية كلها وهزها، حتى تلك الارض التي لا تهتز قد اهتزت، فاصبحت ساحات التحرير في تونس والقاهرة الى ساحات الشهداء في ليبيا الى ساحات التغيير في اليمن وصولا الى الساحات الاخرى في الوطن العربي، مقرات للثوار ومنابر للتعبير الحر وفيها هتف الشباب العربي ضد التبعية والتخلف والتدخلات الخارجية والظلم والقهر وعدم المشاركة في القرار السياسي، ورفعوا شعارات العيش الكريم والحرية والعدالة والمساواة والكرامة والعزة والحرب على الطغيان والفساد والاستبداد. هذه الثورات خ?جت عن المألوف في الثورات العربية ولم تكن ثورة تقليدية ولم تخرج بالطريقة التقليدية، وانما خرجت بروح العصر.. وتطلب متطلبات العصر وتستخدم تكنولوجيا العصر، وليس لها قيادة معروفة ولم ترفع شعارات عقائدية واتبعت الوسائل العلمية ولم تحمل السلاح بالرغم من جبروت السلطة والسلطان واجهزة القمع الرهيبة في عواصم عربية لا ترحم وتهتف دوماً «اما ان نحكمكم او نعدمكم». 3- ان الذين فجروا الثورات العربية وقادوها هم جيل عربي جديد، لا يهتم بالايديولوجيا ويعبر قبل كل شيء عن رفض الدكتاتوريات الفاسدة ويرفع مطالب الديمقراطية فشعاراته معظمها براغماتية وملموسة، وشكلت شبكة الانترنت فضاءً له وملاذاً لحريته ومنبرا لهم، حيث وظفوا ثورة الاتصالات الحديثة «الفيس بوك» و«تويتر» في عملية الحشد والتعبئة للمظاهرات. والاهم في ذلك ان وسائل الشباب اليوم خرجت عن سيطرة الحكومات وكذلك عن سيطرة الشعوب مع مطلع القرن الواحد والعشرين الذي يتميز بالثورة التكنولوجية وتقنيات التواصل والاعلام الاجتماعي مثل?«الفيس بوك وتويتر». كما يتميز بتحول ديمغرافي وسياسي واجتماعي هائل يتمثل في ظهور نخبة شبابية جديدة تريد كتابة التاريخ واعادة النظر في الانظمة السياسية والمطالبة بحقها ليس فقط في التغيير بل كذلك الدفاع عن الحق في الثورة وتغيير السياسات. ان الربيع العربي بحيويته وقوته وسلميته باستخدامه روح العصر ومتطلبات العصر اجتاز حدود الوطن العربي وتعداه وصولاً لما وراء البحر المتوسط والمحيط الاطلسي وامتد في كل الاتجاهات ليشمل كل الانسانية من المحيط الى المحيط، وراح يلهب محتجين ومتظاهرين ضد الفساد المالي وامبراطوريات الاحتكار الظالمة الطاغية في المدن الاميركية والاوربية. وبعد شهور معدودة من الحراك الشعبي العربي ظهرت عدة نماذج مشابهة في اسبانيا واليونان وفرنسا وحتى في اسرائيل احتجاجا على السياسات الاقتصادية بالذات. وان منظمي هذه المسيرات والاحتجاجات يعتر?ون بكل الوضوح ومن على موقعهم الالكتروني بان هذه المسيرات تستلهم «الربيع العربي» في طريقة الاحتجاج السلمي المستمر والحرص على عدم وجود قيادة واضحة للمسيرات والتركيز على دور التواصل الاجتماعي فيها. لقد حقق الربيع العربي في الواقع واحدة من اهم التغييرات في تاريخ العمل السياسي الدولي اذ انه وللمرة الاولى يتم انتاج نموذج سياسي واجتماعي عربي جذاب يمكن استخدامه في الغرب. في الدول الغربية لا يوجد قمع سياسي ولا فساد حكومي يتجاوز حدود الضبط «ولا بلطجية» ولا «شبيحة» يرتكبون الجرائم بحق المتظاهرين، ولكن المشاكل الاقتصا?ية تتزايد ونتائجها تؤثر بشدة على المواطنين الذين اعتادوا على توافر الخدمات الرئيسة بطريقة مناسبة وعلى توافر الوظائف وسبل المعيشة الملائمة. لقد اظهرت الازمة الرأسمالية التي اجتاحت الغرب منذ ثلاث سنوات عمق المشكلة الاقتصادية التي تمكنت من استنزاف مدخرات نسبة عالية من الطبقة الوسطى، بل وضعتها تحت ديون طويلة الامد ومستقبل مظلم في غياب الامن الوظيفي، الحراك الشعبي او الربيع الغربي حدث عفوياً وساهم في ذلك وجود الشفافية الاعلامية والثقافية والتي ساهمت بنشر العديد من الكتب والتحقيقات التي كشفت حقيقة الفساد المالي ? وبناء على ذلك تحرك المواطنون وبشكل مباشر ضد مصدر الفساد الرئيس وهي المؤسسات المالية الموجودة في «وول استريت» و«حي سيتي المالي» في قلب لندن والبنك المركزي الاوربي في «فرانكفورت» وغيرها من المؤسسات المالية الغربية. 5- منذ 71 سبتمبر 1102م انطلقت في اميركا مظاهرات سلمية نظمتها حركات مثل: «احتلوا وول استريت» «اوقفوا الآلة» «انشئوا عالما جديداً» «جماعة 99% من الشعب» وقوام هذه الحركات الشباب الجامعي العاطل عن العمل والباحث عن مسقبله. ورغم التعتيم الاعلامي الشديد الذي قوبلت به هذه الحركات الا ان عددها قد اشتد في الايام الماضية وتعالى صوتها وعمت اكثر من «08» مدينة اميركية واجتذبت بريق الاعلام الدولي بشدة، ومن ثم اكتشف العالم كله ان الشباب الاميركي قد فجر ثورات الربيع الاميركي رافعاً شعاراته الرئيسة، بانهم هم 99% من المواطنين الذين يعانون من تأثيرات الازمة الاقتصادية، بينما هنالك «1%» اما مستفيدون من الازمة ام هم الذين صنعوها بسبب سوء السياسات العامة او الجشع او الفساد. المتظاهرون يهدفون الى القضاء على جشع الشركات متعددة الجنسيات والمطالب? بالعدالة والمساواة الاجتماعية، وفك الارتباط بين السياسيين ورجال المال والاعلام الذي ادى في نظرهم الى افقار الطبقة الوسطى وفقدانها لمدخراتها ومنازلها وإلى تفشي البطالة ورفع الدين الاميركي الخارجي الى اكثر من «اربعة عشر ترليون دولار»، فالارقام الحقيقية وغير المعلنة للبطالة في الولاياتالمتحدة قد بلغت حوالي «51%»، وهذا ما اكده عمدة نيويورك حينما صرح بان تنامي معدلات البطالة في اميركا يهدد بتفجر احتجاجات عنيفة في شوارع المدن الاميركية على غرار ما حدث في شمال افريقيا. مظاهرات واحتجاجات الشعب الاميركي سوف تتنام? في الاشهر القادمة بسبب الفقدان التدريجي لثقة الشعب الاميركي في سياسات اوباما الاقتصادية، مقابل عدم وجود الثقة في الخطابات الشفونية الفارغة التي يطلقها مرشحو الحزب الجمهوري مثل: «ميت رومني» «وريك باري» و«ميشيل باكمان» أو حملات التحريض التي يقوم بها حزب الشاي المتطرف بقيادة «سارة بيلين». تتجاوز شعارات حملة احتلوا وول استريت» التي بدأت في نيويورك ووصلت الى اكثر من «08» مدينة، الاطار الاميركي فهي تريد فضح ووقف سياسات الليبرالية الجديدة الجشعة والتي تسببت في الازمات الاقتصادية في دول اوربية مختلفة ونهب موارد ا?عالم الثالث طوال العقود الثلاثة الماضية. من الصعب توقع مدى نجاح هذه الحملة في تغيير نظام القوى السياسية والمالية في الولاياتالمتحدة، لكنها زرعت نشاطاً مهماً في تركيبة المنظمات المناهضة لليبرالية الجديدة، وربما تتمكن من استقطاب الكثير من الاميركيين العاطلين عن العمل والذين فقدوا مدخراتهم وسبل معيشتهم، وان الشعارات التي تتبناها هذه المنظمات تمثل عناصر جذب وتعاطف بسبب انها مناوئة بمجملها للمستويات العليا بالزعامة الاميركية، في لحظة تتضاعف فيها دواعي القلق لدى الملايين من الاميركيين نتيجة الازمة المالية، وعند?ا تأتي الانتخابات الرئاسية قد تكون هذه المجموعة مؤثرة جداً في تحديد هوية الفائز. ومن الملاحظ ان بعض المحتجين الاميركيين قد اكدوا ان حركتهم قد استلهمت شعاراتها وتكتيكاتها الثورية من ثورات الربيع العربي في تونس ومصر بما في ذلك احتلال الميادين العامة والاصرار على البقاء فيها لحين تحقيق المطالب الشعبية العادلة والحرص على الاجتماع السلمي والحرص على عدم وجود قيادات واضحة للمسيرات والتركيز على دور التواصل الاجتماعي فيها. 6- من المؤكد ان أزمة الاقتصاد الاميركي، المتأثرة بازمة الاقتصاد الاوربي سوف تؤثر سلباً على معظم اقتصاديات العالم المرتبطة بالاقتصاد الاميركي بوصفه اقوى اقتصاد عالمي واكبر ملاذ للاستثمارات الدولية. وعلى الرغم من ان الجميع لا يتوقعون ظهور «قذافي» اميركي «او صالح» اميركي يقوم بقصف المتظاهرين السلميين بالدبابات في الشوارع الاميركية، الا ان اغلب المراقبين السياسيين والاقتصاديين يؤكدون ان حركة الاحتجاجات الشعبية ستتصاعد في اميركا بسبب صعوبة ايجاد حلول حاسمة لها لان ازمة الاقتصاد الاميركي هي ازمة جوهرية تكمن في ب?ية النظام الرأسمالي الغربي وهي تحتاج الى حلول جذرية تلغي السياسات الرأسمالية التي تروج للمضاربة على الديون السيادية وللبيع المكشوف، ومكافأة الشركات والمصارف الفاشلة بضخ السيولة المالية في عروقها المهترئة وتفرض الضرائب على الفقراء وتعفي الاغنياء.. ومنها تورط اميركا في حروب خارجية، ومساعدات مالية ضخمة لاسرائيل تكلفها ديونا طائلة ولا تهتم بايجاد فرص عمل حقيقية لملايين الاميركيين، واذا لم يتم اجراء هكذا عمليات جراحية كبرى فسوف تتصاعد ثورات الربيع الاميركي وتصل الى «واشنطن» نفسها، لان المتظاهرين السلميين الامير?يين يرفضون بشدة ان يظل الاقتصاد الاميركي غزارة في الانتاج وسوء في التوزيع. وكان استطلاع اجرته مجلة «تايم» الاميركية قد اظهر ان «45%» من الاميركيين مؤيد للمتظاهرين، بينما اعربت نسبة «32%» عن رفض واضح للحركة، فيما لم تقرر نسبة «32%» المتبقية موقفها تجاه الحركة. 7- في يوم 51 أكتوبر 1102م تظاهر آلاف الغاضبين، من مدريد الى نيويورك وعبر مئات المدن حول العالم تظاهروا احتجاجا على تدهور اوضاعهم الاقتصادية نتيجة الازمة ونفوذ سلطات المال في اول يوم تعبئة عالمي تقيمه حركة الاحتجاج والتي ولدت في اسبانيا في يونيو 1102م، وتحت شعار «متحدون من اجل تغيير عالمي» قام الغاضبون في التظاهر في «157» مدينة وفي «28» بلداً، حسب «موقع 51 أكتوبر-نت» داعين شعوب العالم اجمع الى الخروج الى الساحات والشوارع. وبعد خمسة أشهر على ميلاد هذه الحركة في «51 يونيو 1102» في مدريد، يطمح الغاطبون وغيرهم من المجموعات مثل «اوكوباي» «وول استريت» في جعل «51 أكتوبر 1102م» يوماً رمزياً يستهدف اعلى السلطات المالية مثل «وول استريت» في نيويورك وحي «سيتي» المالي في لندن، والبنك المركزي الاوربي في فرانكفورت. ودعا بيان حركة 51 أكتوبر شعوب العالم في اميركا واوربا وآسيا وافريقيا ان تتفق مطالبة بحقوقها الديمقراطية الحقيقية، وان الغالبية يجب ان تنتزع حقوقها من الاقلية التي تستأثر بكل شيء. 8- والذين تحركوا من مدريد في اوربا الى نيويورك في اميركا ليسو جماعة معنية تحمل صفة ايديولوجية، ولا حزبا من احزاب اليسار الاوربي او المتعاطفين معه، ولم يكن منهم زعيم بارز يقود حركة احتجاجهم، وحددت اهدافهم الشبكة العنكبوتية عبر مواقع التواصل الاجتماعي وسموا انفسهم «موحدون من اجل التغيير» مئات الآلاف من الرجال والنساء، يتكلمون عشرات اللغات المختلفة، احتلوا الساحات والميادين في العواصم الكبرى، تحركوا على طريقة احتجاجات الربيع العربي، وقد تأثروا بها، ولكن دونما رصاص ودماء وسجن وقتل وتعذيب، صب الغاضبون غضبهم على?البنوك واسواق البورصة في نيويورك وزيورخ وجنيف، وبازل ولشبونة وبروكسل، وفيينا وامسترادم، وحتى عواصم الدول التي خرجت من عباءة الشيوعية والاشتراكية لم تسلم من غضبهم في وارسو، وبراغ. تحرك هؤلاء الغاضبون بسبب الفقر والبطالة المتفشية بين الشباب، وتزايد حدة الفوارق الاجتماعية بين اغنياء يتحكمون برأس المال ويحركونه حسب مصالحهم وبين فقراء لا يجدون عملا ولم تعد تكفيهم اعانات الضمان الاجتماعي. 9- دبت بعض الشكوك بشأن استمرارية الحركة بسبب عدم بروز زعيم واضح يقودها ورفضها لحل الهياكل السياسية التقليدية واعتمادها «الديمقراطية التشاركية» في اقصى اشكالها، غير ان الغاضبين في اسبانيا التي تعاني نسبة بطالة قاسية بلغت «02%»، قد لاقوا دعماً شعبياً واسعاً، تمكنوا من رفع صوتهم وتحقيق بعض الاهداف، مثل التظاهرات التي منعت او اخرت طرد عشرات الاشخاص من اصحاب المنازل المدانين منذ بداية الصيف. واعتبر الاقتصادي الفرنسي «توما كونزو» احد رؤساء منظمة «اتاك» التي تدعو الى عولمة بديلة، اعتبرها ظاهرة واعدة جداً حيث ان ا?مواطنين اصبحوا لا يريدون تفويض رجال السياسة والاحزاب، ويريدون ان يرموا بثقلهم كل في مكانه، ويقول: انها دعوة الى اصول الديمقراطية. 01- لقد حقق الربيع العربي في الواقع بعد ان تخطى الحدود العربية الى العالمية في اوربا واميركا، واحدة من اهم التغييرات في تاريخ العمل السياسي الدولي اذ انه وللمرة الاولى يتم انتاج نموذج سياسي واجتماعي عربي جذاب يمكن استخدامه في الغرب. * خبير وباحث في الشؤون العسكرية والسياسية