(1) ٭ ليس أسوأ من حفظي للدوبيت سوى محاولات القاء الدوبيت و(النمه)، ومع ذلك ظللت أقدم فقرة ثابتة في الليالي الثقافية أيام الوسطى، ويبدو أن مظهري المتشنج وصوتي (المرتج) هو أكثر ما يثير الدهشة وسط حضور أغلبهم لا يدرك ما أقول، ولم تكن أجمل لحظاتي وان لم تكن واحدة من الذكريات التي أود لو أنني محوتها، خاصة حين أعود إلى قريتي واستمع إلى (العمدة) وهو يحفظ المسادير بدقة متناهية والقاء متسارع وبديع، ولكن زملائي وهم قلة ظلوا يدفعوني إلى صدارة المسرح حفاظاً على تلك القيمة التراثية، فأهل هذه الديار لديهم ارتباط وثيق بأرضهم وديارهم، ليس الشواهد والأمكنة وإنما المعاني، وكما قال العاقب ود موسى: نحنا سهمنا دائماً في المصادف عالي نحنا العندنا الخلق البتاسع التالي نحنا المحن بنشيلها ما بنبالي بنلوك مرُهن لامن يجينا الحالي (2) ٭ قال ود أب شوارب: وخرتوا امتثال صاحبي المتمم كيفي ابراهيم ثبات عقلي ودرقتي وسيفي مطمورة غلاي مونة خريفي وصيفي سترة حالي في نساي وجناي وضيفي ٭ فهذا احتفاء بالمعاني وارتباط بالقيم الكبيرة، سترة الحال والسند وكفاية العيش في لحظات الضيق، وهذا نابع من ميراث عريق وتليد وبعضاً من خصائص أهل السودان، وأصبحت قلوبهم وأفئدتهم نزاعة للارتباط بهذه الأرض، ويهفو وجدانهم إليها. (3) ٭ كان الشاعر طه ود الشلهمة طريح الفراش حين تناهى إلى مسامعه استعداد القبيلة لرحلة النشوق، وقد أهاجه البرق وقال: من قدح البريقات ما يقي سقد حس قيام أخبار رحيلكم عندي ما مندسه ما معاي حاجة من غير العضام والجثة بقلبي المعاكم يا حبيبي أتوصى فهذا احساس عميق وروح ذات ارتباط بالحياة الاجتماعية وما تمثله من إخوة وترابط وقيم جميلة تتجافى الغربة وتدعو للرضا بالقليل وترك مقاساة هذا الوجع والبعد، وكانت نهى كباشي تقول: يا ود كفاك ما قلت ليك عزاً تجيبه الغربة زي قصب العدار هي الغربة كان بتجيب عمار الفاتو قبلك غير فريقنا يجيبوا فرقاناً كتار يا ود كفانا من المرار وكفاك من النوح والوجع والغربة والشوق والودار (4) ٭ تعكس المسادير في التراث الشعبي قيمة فنية ناضجة ونابضة بالحياة والعمق، وكلمة المسدار مشتقة من الفعل سدر – أي ذهب لا ينثني – ومسادير الشعر في أغلبها رحلة من مكان إلى آخر لهدف محدد وغاية محددة، ولكن ما يهمنا فيها هذا الوصف للأماكن والشواهد والبقاع، فهي تسجيل دقيق، قال الشيخ أحمد عوض الكريم في مسدار رفاعة: ضهير قلعة مبارك جيتو تلعب شد منعت (اللسعة) والكرباج وقولة هد على التالاك احسان ذوقه ما بنعد يومك كله تمصع ما انلحق لك حد وقال في مسدار القضارف: الغبشان قليع أمات سيوف وحدار به جاهن جامع السرج كله ناطح غاربه وجاء في مسدار ستيت للشاعر عبد الله بك: قطعت الليد عرق حلة كنانه زملنا الكرت يجابدن في الرسانه وفي مسدار قوز رجب يفصل الشاعر الصادق ود الحلال في الأماكن: (تقاي) (المفلخ) شلتو في مشوارك جوط وأجوجي لا هسع بعيد مترارك قال لي الهسال كان ترخي منو يسارك بوريك أدعج النقع الفتق نوسارك والعاقب ود موسى قال في مسدار الضكير: جاء بين (المقلوزة) والجزيرة العالية ناوي يهجم الفدعه أم لهيجة حالية مقبورة الشبابات أم نفايلاً غالية إت لحت سريك وأنا درعتني القالية وكل مكان يهيج أشواق ومشاعر جياشة ، ولكل محطة ذكرى خاصة ولحظات تثير كوامن الشجن الشفيف، وتبقى كلها تعكس ذلك الحب العميق لهذه الأرض وتعزز علاقة الإلفة والمحنة.