٭ انهالت عليَّ المكالمات التلفونية من العديد من الأصدقاء والقراء وكلها تلفت نظري لمتابعة المقابلة التلفزيونية التي بثتها قناة الشروق الفضائية مع الأستاذ الاعلامي الدبلوماسي محمد محمد خير الرزوقي الملحق الاعلامي بسفارتنا بالدوحة.. وقد تطرق في المقابلة لدوري أنا في «استلام» الاذاعة والتلفزيون وذلك شرف لا أدعيه وتهمة لا أدفعها.. لكن الشاهد في الحكاية التي رواها محمد خير هي العلاقة الانسانية بيننا فقد كان محمد خير يطلق عليَّ أيامها لقب «الانقلابي الديمقراطي».. وأطلق عليه لقب «السنجك الأنصاري» فقد كان يماليء حزب الأمة جناح الصادق أو «القومي».. وليست هناك كثير مودة بين السناجك والأنصار لكن محمد خير انتمى لحزب الأمة بحكم «الانصاف» الذي وجده ضمن قضية المفصولين تعسفياً في حكومة الأمام الصادق وكان محمد خير ضمن من يعملون في الملحق الثقافي بصحيفة الأيام في العهد المايوي قبل أن يُعصف بهم.. فأعيد للعمل بالادارة السياسية للتلفزيون حتى قيام الانقاذ.. وكان مدير الادارة السياسية هو الأستاذ عمر دفع الله.. ولي معه قصة فقد كنت ضمن لجنة الاعلام التابعة لمجلس قيادة ثورة الانقاذ الوطني وكان العميد الركن سليمان محمد سليمان عضو مجلس ?يادة الثورة والناطق الرسمي يقود تلك اللجنة.. وهو من هو في التسامح والرفق وحُسن المعاملة فقد كان صديقاً للجميع مُحباً للثقافة والفنون وأهلهما.. وحدث أن أُحيل عدد من العاملين بالتلفزيون للصالح العام وأنا خارج العاصمة وعند عودتي جاءت إليَّ المغفور لها بإذن الله المهندسة عائشة علي جابر حرم الأستاذ عمر دفع الله وقالت لي «عمر بيقول ليك شكراً شكراً شكراً!!» فحزَّت عبارتها في نفسي وذهبت مساء ذات اليوم إلى منزل الأستاذ عمر بالخرطوم بحري فأحسن استقبالي والدهشة تعلو وجهه فأنا وهو على طرفي النقيض السياسي وقلت له «يا أ?تاذ أنت مصنَّف يساري والثورة دي قاموا بيها الأخوان المسلمين فهل يُعقل أن يتركوا لك الادارة السياسية في التلفزيون الوحيد؟ يعني لو أهل اليسار هم من قام بهذه الثورة كانوا حيخلوا «كوز» مدير للادارة السياسية بالتلفزيون؟» فأجابني بوضوح «طبعاً لا» قلت له «خلاص أنا ما ساهمت شخصياً في احالتك للصالح العام لكني موافق ضمناً.. فالمسؤولية في هذه الحالة تضامنية.. ولن أعدك بالعودة إلى موقعك في التلفزيون على الأقل في هذه المرحلة.. لكنني على أتمَّ الاستعداد لتقديم أي خدمة لصالحك ان كان في مقدوري ذلك» فانبسطت أساريره وقال «و?لله كلامك ده ريَّحني وأشكرك على ذلك.. بس أنا عاوز منكم كذا وكذا.. وذكر طلبين اثنين وقد وفقني الله في انجازهما له. وسافر.. وحاولت فيما بعد أن أقدم له واجب العزاء في وفاة ابنته الوحيدة ثمَّ من بعدها زوجته المرحومة المهندسة عائشة علي جابر والتي لم يتأثر وضعها في التلفزيون بسبب زوجها أبداً. رحمهما الله. ٭ دخل محمد محمد خير حوش التلفزيون ذات جمعة وهو يرتدي الزي الأنصاري الكامل «على الله.. وطاقية قبة الامام وعزبه.. ومَلَفْ» فقلت له «ده شنو يا محمد خير؟.. فردَّ عليَّ قائلاً «والله لو سيد صادق قال لي أدخل التلفزيون ده بكلاشنكوف ما أتردد» فقلت له «علي الطلاق أنا أول من يديك طلقة في رأسك.. ده حُكُم ما فيهو يمه أرحميني.» فضحك ثم كان ما كان من أمر اعتقاله واحالته للصالح العام وسفره للخارج.. وأنا متأكد انه في ذلك الوقت لو عتَّرت له قشة بيقول ده محجوب!! وسلقنا «محمد خير» من أقاصي الدنيا بألسنة حِداد وقال فينا ما لم?يقله مالك في الخمر.. وكنت استمتع بكتاباته في الصحف وعلى الشبكة العنكبوتية مع «حداقه طعمها» ولسعات إبرها وهو شاعر جزل العبارة ومتمكن من أدوات التعبير وونَّاس.. وقد كان يعايرنا بأننا حوَّلناه «من مثقف إلى جزار» مع إن الجزارة مهنة ورثها عن بعض أهله وهو كذلك رجل متلاف مضياف يحلف لك بكل عزيز وغال بأن اللحم الذي أمامك لحم حمل متربي بالفراولة!! مع انه في الواقع خروف قشَّاشي قادم لتوّه من الزريبة لم يذق طعم الفتريتة منذ مولده وحتى ذبحه دعك عن الفراولة التي لم يكن محمد خير «ذات نفسو» قد شبع منها يوماً حتى لا نقول ق? رآها!! لكن لفرط حيوية محمد خير وصدق كرمه فقد كدت أتذوق «طعم الفراولة في لحم الحمل». ٭ قال لي محمد خير بعد عودته من المنافي «اسمع يامحجوب علي الطلاق مافي بلد غير السودان ومافي دين غير الاسلام» وكانت تلك العبارة الموجزة الصادقة جامعة مانعة مهَّدت له الطريق للعمل ضمن وفد التفاوض على سلام دارفور في أبوجا بمعية الشهيد د. مجذوب الخليفة.. ثم اصطحبه الأستاذ علي عثمان محمد طه لمؤتمر المانحين في أوسلو.. ثم أُختير ملحقاً إعلامياً في دبي ومنها للدوحة وحتى الآن.. وهو يرفدني بين الفينة والأخرى بكتاب كتابين من ثمرات المطابع لأنه قاريء نهم ونقَّاد يختار الجياد. وبعد كل لقاء أو مكالمة هاتفية يقول لك «أهاك?ف ناوي تعمل» وبقية العبارة تكملها بنفسك «في قلوبنا وحنانا» من أغنية الأستاذ محمد ميرغني «شفتك وابتهجت وين يا غالي إنّتا».. «نحن الزمن شقانا وإنتا زي ما إنتا» أو يقول لك عقب كل وجبة دسمة «رِيِّح الدِهِن» بمعنى أن تشرب بعدها ما يُيُسِّر الهضم من شربوت أو غُباشة.. أو نحو ذلك!! ٭ وصل محمد خير إلى مطار دبي للمرة الأولى لاستلام مهامه هناك.. وبينما كان يسحب حقيبة سفره من خلفه وهو يتجه إلى المخرج سمع صوتاً ينادي «يا سعادتك يا سعادتك» فالتفت إليه فإذا به موظف العلاقات العامة بالقنصلية «فضحك محمد خير قائلاً دي أول مرة زول يقول لي يا سعادتك.. أنا سعادتك ولا شقاوتك!!» الله يخت مَحنك يا الرزوقي!! وللحديث بقية.. وهذا هو المفروض