عندما سلمني الأخ خلف الله العباس، الكتاب الذي اصدرته منتديات عائلة البلالاب بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل العالم الجليل الدكتور ابراهيم علي بلال، ومعه رقاع الدعوة للمشاركة، في حفل تأبينه الذي أقامته الأسرة والأصدقاء ثاني أيام عيد الأضحى المبارك في مسقط رأسه ب(حزيمة) (فلقد كان رحيل ابراهيم، أول أيام عيد الفداء الابراهيمي من العام الماضي). لكن ظروفاً اخرى اخذتني إلى (اتبرا) ففاتني ان اشارك في المناسبة الجليلة. فأنا لا زلت أذكر ذاك المساء (وكنت فتى غض الاهاب). عندما دخل علينا خالي عثمان المك، ونحن رهط من الطلاب نذاكر معاً، قال خالي: انتم سعداء ابتسم لكم الحظ فسيدرسّكم الاستاذ ابراهيم علي بلال، وكنا آنذاك بمدرسة العمال الثانوية العامة ويبدو أن الحظ لم يحالفنا كما أراد له الخال عثمان، ففي صباح اليوم التالي عرفنا أن الأستاذ ابراهيم علي بلال جاء (اتبرا) أستاذاً بمدرسة الكمبوني. ٭ كان الراحل دكتور ابراهيم، يزورنا في البيت، إن لم يك يومياً، فعلى الأقل في الأسبوع مرة، فنحن من (مقاشي) وهو من (حزيمة)، وحزيمة ومقاشي في اتبرا (حتة واحدة). أو للدقة قل: نحن من أسرة لها إمتدادها العضوي بحزيمة، والراحل دكتور ابراهيم من أسرة لها إمتدادها العضوي بمقاشي، وبين الأسرتين علاقة قوية، صلب عودها منذ تحالف (عشماني وخالد) وتوطد على مدى الاجيال، مروراً بعلي خالد (رحمه الله) ولا يزال مستمراً تحت راية شقيقه عوض (أمد الله في أيامه). قال لي محدثي: أن حبوبتي عشماني رأت في المنام، نهراً ينبع من بيتها، ويتدفق قوياً في مجرى، كان مصبه في حوش خالد علي عمر، وما أن أصبح الصباح، حتى تتبعت مجرى النهر، والتقت خالد، ومنذ تلك اللحظة ولد (التحالف)، الذي ما زال قوياً. ٭ كان الراحل دكتور ابراهيم يزورنا كثيراً، وأذكر أن شقيقي محمد علي (رحمه الله) همس في أذني يوماً (وكان يهتم ويفهم في السياسة أكثر مني): - أستاذ ابراهيم ده يا شيوعي يا صديق شيوعيين. - قلت له: ليه؟! - قال لي: ما شايفو بجينا كتير. - قلت له: ما من أهلنا.! - قال لي: ما «وبس».!؟ وكان خالي عثمان، شيوعياً ناشطاً، ومسؤولاً عن تنظيم الحزب في حينا، ومازلت أذكر عندما تزوج خالي عثمان، من حفصة التوم حمد، أهداه ابراهيم.. الساعة ودبلة الخطوبة.. ٭ وكان كلما زارنا الراحل المقيم ابراهيم، نتحلق حوله، (يفتّش) كراساتنا، ويسألنا اسئلة لطيفة. ٭ اذكر مرة قال لي: أعرب: أكلت ديكاً وديكاً، «وكنت صناجة النحو في دفعتنا» فأعربت ديكاً «الأولى» مفعولاً به منصوبا، والواو واو العطف وديكاً «الثانية» معطوف على المفعول. فضحك الاستاذ الجليل «عليه رحمة الله» وقال لي: لا، (وديكاً) نعت. وعندما جاء في اليوم التالي قال لي: أعرب: أكلت ديكاً وديكاً.. فأعربت الديكين كما قال لي بالأمس، ديكاً مفعولاً، وديكاً صفة. فضحك «عليه رحمة الله» وقال لي: لا.. ديكاً مفعولاً والواو واو العطف وديكاً معطوف على المفعول. ومنذ ذاك الزمان، وأنا لا أزال في حيرة من أمر إعراب: أكلت ديكاً وديكاً. وكان أساتذة العربية و(فطحالتها)، يقدمون لتلاميذهم اللغة في أطباق شهية، تغري السامع، وتدفعه إلى التعمق في بحارها. ودكتور ابراهيم، بالاضافة إلى علمه الغزير في العربية، كان شاعراً وقاصاً وأديباً نحريراً. وبالرغم من صغر سننا، كنا ندرك جيداً أن الحصص التي كنا نتلقاها خارج الفصول، لا تقل أهمية عن الحصص التي نتلقاها داخل حجرات الدرس. قال كاسباروف بطل العالم في الشطرنج: (إن النقلات التي نضعها في أذهاننا، أثناء اللعب، ثم نصرف النظر عنها، تشكل جزءاً من اللعبة تماماً كتلك التي ننجزها على الرقعة). ذكر شقيقه الشاعر سيد احمد علي بلال، في تقديمه للكتاب الذي أعدته منتديات عائلة البلالاب، بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله: كان ابراهيم من أوائل السودانيين الذين جربوا كتابة القصة القصيرة. وقد بثت له عدة قصص قصيرة بصوته من خلال إذاعة ركن السودان من القاهرة في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن العشرين: ولم يكن نتاجه الأدبي ذاك مجرد مشاركة هواة وإنما كان جهداً معترفاً به وله مقابله المادي من الإذاعة. ونشرت بعض قصصه القصيرة آنذاك على صفحات صحيفة (الصراحة) السودانية لصاحبها طيب الذكر عبد الله رجب. وكانت هناك مخطوطة بخط يده. لا ادري أين هي الآن. تحتوي على عدد من هذه القصص. ٭ وأجزم ان ابراهيم كان شاعراً، واقطع، أنه له قصائد متناثرة هنا وهناك (آمل من الأسرة الكريمة البحث عنها وجمعها)، والقرينة عندي أن كلامه كان (شعراً)، وأحاديثه معنا كانت (قصائد). ٭ وكان يقرأ الشعر بمخارج واضحة: الشين من سقف الحلق الأعلى، والضاد من الشدق، والزاي من طرف اللسان، والياء ما بين الثنايا، وبإنفعال وحضور، بهي الرواء، يملأ المرء منه عينيه، بلون القمح قبيل نضوجه، فارع «سنونو بيض»، وشعره «سبيبي» يتدلى على كتفه، ولسانه زرب، ومفرداته منتقاة ب(منقاش) من صنع عيسى الحلبي، وكنت ألمس في مفرداته مذاق تمرنا: بت تمودة وكُلمة وود لقاي ومشرق ومديني وتبشا وقنديل. أذكر أنني التقيته في مناسبة عائلية، فسألته: ماذا تقرأ هذه الأيام؟ قال لي: أقرأ في (شفرة دافنشي)!! وكانت شفرة دافنشي، في تلك الأيام، عصية على مثقفين ودارسين، يتلقونها من القادمين من خارج البلاد. ولد ابراهيم بلال، في حزيمة، الزمن (دميرة) والبحر ضائق من الجانبين إيذاناً بالفيضان، والعام 0491م. وتلقى تعليمه بخلوة (ود فور) وحفظ القرآن على يد الشيخ عبد الرحمن اليمني (والد الفنان عثمان اليمني)، ثم معهد كريمة العلمي. في معهد كريمة العلمي، قال له شيخه الكفيف أحمد خضر (رحمه الله): سافر إلى مصر، اذا قرأت لافتات المحلات التجارية في شارع الموسكي فقط لعدت الى السودان مثقفاً. وبالفعل سافر ابراهيم إلى مصر، بعد أن انتقل من كريمة إلى معهد بورتسودان العلمي وانتظم في معهد البحوث، ثم كلية الشريعة بجامعة الازهر. ٭ وفي مصر، التهم الراحل المقيم كتب (الازبكية) و(الفجالة) و(وهبة)، واستمع إلى محاضرات طه حسين والعقاد وتيمور، وقرأ كتبهم، وكتب نجيب محفوظ والسباعي ويوسف ادريس وغيرهم.. والتقى بشعراء مصر وأدبائها، وعقد صداقات مع كمال عبد الحليم ومحمد ابراهيم ابو سنة وأمل دنقل. ٭ وفي مصر، توطدت علاقاته مع الأدباء والشعراء السودانيين، الذين كانوا في مصر في ذاك الزمان: جيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن والفيتوري وفارس ومحمود خليل وبكاب وفاروق الطيب البشير، وكان لهذه المجموعة، دوراً وقدحاً معلى في ميادين الثقافة في مصر. كما زامله د. صديق الحسين والأساتذة علي عطا المنان وأحمد خليفة علي وإبراهيم حماد وحسين ومحمد مجذوب وعبد العزيز الرشيد القاضي. ٭ عاد الأستاذ ابراهيم بلال إلى السودان، وعمل في أريافه ومدنه في: الجزيرة أبا، والقطينة، والدويم، وبورتسودان، وحلفا الجديدة واتبرا وكريمة. وانتقل خارج السودان للعمل بالجماهيرية الليبية (هل لا زالت جماهيرية.. لا أدري؟!). ٭ داهم المرض الاستاذ الجليل ابراهيم علي بلال، (والمرض لا يميز بين عالم وجاهل)، ونُقلت له كلية من ابنه. لكن المرض لم يقعد ابراهيم عن كسب العلم وعطائه، فحصل على الماجستير في شعراء الكتيبة، حسن عثمان بدري (شيخهم)، والنور ابراهيم (أميرهم) وكرف وحسن عمر الأزهري (ابن عمر)، ومحمد الأمين القرشي، وتوفيق صالح جبريل وإمام دوليب، ومنير صالح عبد القادر ومحمد محمد علي، ومحمد مصطفي الخزرجي. ٭ وتبع ابراهيم رسالة الماجستير برسالة دكتوراة في بحث بعنوان: (القضية الفلسطينية في الشعر العربي الحديث) (دراسة مقارنة). ٭ تزوج الراحل المقيم من السيدة أم الخير محمد فضل وله من الأبناء (أيمن وايهاب)، ومن البنات (أماني - ايناس - ايمان)، وتلاميذ كثر، يعصون على العد، داخل وخارج السودان. ٭ وعندي أن عائلة البلالاب، ما خلقت إلا لتتعلم وتعلمّ، وعندما تزوج صديقي محمد العباس الحسين (أول الشمالية والسادس على مستوى السودان في العام 1978، من إحدى بنات د. ابراهيم، قلت بيني وبين نفسي: أن هذا زواج مهره العلم). ٭ وكلما التقيت (بلالابياً) أحس بأن قدراً من الثلج يندلق في جوفي، فيطفيء ظمئي الحارق إلى المعرفة. ولي مع حفدة عائشة تاجوج ومدينة بنت بلال، محمد وحسن وعبيد علي خالد، وأولاد الأحمدي، وعمر علي عمر، واولاد العباس، وسيد أحمد علي بلال، وكمال عبد الله بلال، والأستاذ حسين بابكر بلال وآخرين، علاقات لن تنتهي،... لهم مني جميعاً التحية، وحسن العزاء في الفقد الجلل.