قدم مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بالتعاون مع جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، احتفائية بالذكرى الأولى لرحيل الطيب صالح. وقدم في الجلسة المسائية سعادة الوزير محمد بن عيسى «المغرب» ورقة بعنوان «مع سيدي الطيب»، وجاءت مداخلة ثرة من الاستاذ حلمي النمنم رئيس تحرير مجلة «المصور» «مصر»، وقدم كذلك د. منصور خالد ورقة، وتحدث د. ابراهيم القرشي عن الطيب صالح صوفياً، وأدار الجلسة د. ادريس النيَّل. وتحدث بدءاً الأستاذ محمد بن عيسى وزير الثقافة المغربي الذي قاد منتدى أصيلة قائلاً: التحية لهذا البلد الذي أنجب طيباً صالحاً، وآنس وحدتنا وقربنا إلى بعض في حياته، وها نحن نلتقي اليوم على ذكراه بعد رحيله، وجئت اليكم من المملكة المغربية مدفوعاً بشوق غامر لتجديد الصلة بهذه الأرض الطيبة لألمس التربة التي سار فوقها بخطواته الهادئة، وأشم عطر هوائها، وارتوى من ماء نيلها، وأخال نفسي في صحبته سيدي الطيب وهو يمشي الهوينى كعازف يلامس برفق بأنامله الرقيقة الأوتار الرهيفة لآلة موسيقية يخاف أن تتقطع. واجد نفسي قريبا من مثواه الاخير، فأجول في نفس الامكنة التي مر بها، ويأتيني صوته منادياً من علياء الملكوت صافياً رخيما هادئا شاكراً ومعتذرا، فهو ليس في الاستقبال يخفف بترحيبه العذب عناء زيارة الوطن السودان الذي لم يفارق قلبه وعقله أبداً. ويعاتبني سيدي الطيب قليلاً بلطفه المعهود، ويسأل عن أصيلة وأهلها الذين بادلوه المودة الصادقة، اتصوره كعهدي به محرجا من كل ما غمرته به مدينتي من حب دافق، لكني اتخيله راضيا عن الحديقة التي تحمل اسمه، فقد أينعت أزهارها ونبتت أشجارها وانتشر في الهواء شذاها واريجها، إننا بالتئام هذا المحفل البهي الذي يرفرف عليه الطيف الطيب، فقد حج اليه محبو الطيب الغالي، فكأننا ننفذ وصية لم يتركها سيدي الطيب مكتوبة نستشفها من خلقه الرفيع بأن تظل الرابطة قوية بيننا، خافضين لذكراه، ملقنين ومبتهجين ومرشدين الاجيال الراهنة، وتلك التي ستخلفنا على هذه الأرض، إلى خصال إنسانية نادرة وسمو مقامه وموقعه في خارطة الآداب الإنسانية، وأن هذه مناسبة سانحة للتعبير عن الشكر والامتنان الخالص لصديقي وأخي العزيز السيد محمود صالح عثمان صالح، ولمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، وللبروفيسور مأمون حميدة، وللأصدقاء الأوفياء الذين وحدوا جهودهم بسعيهم لتنظيم هذا الاحتفاء بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل فقيدنا العزيز الطيب صالح، متمنياً أن نعمل جميعاً على تتويج هذا الاحتفال بإقامة صرح رمزي بالغ الدلالة يصبح بالفعل مؤسسة بالمعنى العلمي للكلمة، حافظةً لاسمه وذكراه، ومنارة أدبية مشعة، بل مزاراً ثقافياً وورشاً مفتوحاً للابداع يوفر لمرتاديه ما يبقون معرفته عن سر وكنه صناعة الفقيد الطيب صالح انسانا عذبا وكاتبا مجددا ومبدعاً ملهماً وقارئاً نهماً مستكشفاً لمناهل الثقافة العالمية، مؤسسة يمكن للمترددين عليها أن يتخذوا اسم من يحملها قدوة منيرة لهم إن ارادوا السير على درب الابداع واعتناق مذهبه في الحياة الادبية وحياته العادية. واعتقد اننا متفقون فيما بيننا على ان سيدي الطيب كان جديرا بهذه الالتفاتة في حياته، وبما هو اكبر من هذا، ولكني موقن وانا هنا احاول ان اعبر عن مشاعركم، أنه ما كان سيقبل في حياته بأي تمجيد له او اشادة بمساره الابداعي الحافل، فقد سكنته قناعة الناسك الزاهد طوال حياته، فمات قرير العين ومرتاح البال نقي الوجدان طاهر النفس راضياً عنها.. واتذكر اليوم الذي احتفلنا به فائزا بجائزة الرواية العربية التي تمنحها مؤسسة منتدى أصيلة ضمن جوائز ادبية اخرى، اتذكر أن يده كانت ترتعش وهو يتسلمها كأنه تلميذ خجول فاجأته الورقة الاولى في الامتحان، وحين تكلم شاكرا قال إن الجائزة كبيرة عليه، وصار يثني على من سميت باسمه الروائي المغربي محمد الزفزاف الذي سبقه إلى عالم الخلود، وربما همست في أذنه مهنئاً ومعاتباً في ذلك اليوم الجميل: سيدي الطيب هذه الجائزة منحتها لك لجنة من النقاد، وليست منة من أحد. ويتكرر نفس المشهد بعيدا عن اصيلة في القاهرة، حينما أجيز وسط تصفيق قوي على قبول تسلم جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية التي نالها باجماع اللجنة المانحة، كانت تسري في عروقه دماء البسطاء الطيبين دون تكلف او ادعاء، مضت الكبرياء ونأى بنفسه عن المتكبرين والمتسابقين نحو الشهرة، وآمن بأن الابداع الصادر عن الموهبة الفذة لا يحتاج الى ترويج او واسطة، فإذا اكتشفه القراء يقبلون عليه ويوصون بتداوله.. وأدرك الآن كيف أن الراحل الكبير بسمو أخلاقه لن يتودد في مسار سيرته الأدبية لاية سلطة نقدية لتزكيه لدى دور النشر والقراء، واكاد اجزم انه لولا اصدقاؤه المخلصون الذين كان يثق في آرائهم وحاستهم النقدية ويستحي منهم ولا يرفض لهم طلبا، لما غامر بنشر رائعته الخالدة «موسم الهجرة إلى الشمال»، الرواية التي اعتبرها واحدة من الدرر الأدبية الغالية، ولا اتردد في تسميتها بمعلقة النثر العربي، فهي جديرة بأن تحفظ في الصدور مثل نظيراتها في الشعر الجاهلي.. ومن جميل المفارقات أن فقيدنا سيدي الطيب اختار مجلة لم تكن متداولة على نطاق واسع في الدول العربية باستثناء نخبة المثقفين في النصف الثاني من عقد الستينيات، ليقدم على صفحاتها بما أسميه التفجير الأدبي المدوي، وأسلمه ذلك النص الفريد استجابةً وإرضاءً بل نزولاً عند رغبة ملحة لمثقف سوداني هو الراحل جمال محمد أحمد، فقد كان المرحوم جمال يتولى مسؤولية المستشار الثقافي لمجلة «حوار» التي توقفت عن الصدور بعد فترة من صدور الموسم، وكما سمعت وقرأت، فقد انتزع جمال مخطوطة «موسم الهجرة» من سيدي الطيب وهو يتضرع إليه «لا يا شيخ استرني هذه رواية ادبية بسيطة لا تستحق النشر»، لكن مواطنه كان متيقناً من أنه عثر على منجم أدبي، فسارع الى كشفه فخورا بموهبة نبعت من تربة بلده فزادتها شهرة وذكرى في المحافل الثقافية. واعترف بأنني كنت وسأظل عاشقا مولعا بسيدي الطيب، وأظنكم مصدقين انني أبعد ما أكون عن المجاملة، فقد ربطنا نحن الاثنين حبل سري لم أرغب قط في فك شفرته ليظل ممدودا بيننا إلى الأبد، ومن منطلق تلك المحبة الصوفية المتبادلة التي لم تشبها قط شائبة أبيح لنفسي الحديث بمثل هذه الصراحة التي أدركت قيمتها من معاشرتي سيدي الطيب، أن الحاضر في قلوبنا هو رمز إنساني كبير، بل ثروة قومية يجب ان تحافظوا عليها وتصونوها من الضياع، هذا ما يجعلني أعبر عن أمنية صادقة أن تشبه المؤسسة التي اقترحها اليوم في تنظيمها وادارتها وغاياتها تلك التي أقامتها الأمم المتحضرة عرفانا وتقديرا للنابغين من أبنائها في العلوم والآداب والفنون والاختراعات والبطولات القومية، فلا نريدها مجرد مبنى أو مقر أخشى أن يتحول مع مرور الزمن إلى اسم بدون مسمى، وأنتم تعلمون ما أن ما يميز كثيراً من العواصم العالمية ويضفي عليها قيمة وشهرة، ويجلب اليها الزوار، ما تزخر به من متاحف ومعارض ومواقع أثرية أطلقت على بعضها أسماء كتابها ومبدعيها وفنانيها الخالدين، فاستودعتها آثارهم وأشياءهم الصغيرة والكبيرة، وكل ما ارتبط بهم من المخلفات المادية والأدوات التي استخدموها في المجالات التي برعوا فيها، ويتم التعامل معها باعتبارها جزءاً من تراثهم الإنساني، ومنذ فكرت في هذه المبادرة التي أطالب اليوم بترشيدها على ارض الواقع، وأنا أقلب في ذهني وخيالي صور النماذج التي اتمنى من أعماق نفسي أن تشملها هذه المؤسسة، أو تكون على شاكلتها، سواء التي زرتها في اكثر من بلد او التي قرأت وسمعت عنها، ولا تفوتني هذه المناسبة دون أن أقول أمامكم إن مؤسسة منتدى أصيلة التي اتشرف بأمانتها العامة ليست مستعدة فقط، بل راغبة في إقامة أفضل روابط التعاون والتنسيق معكم إكراما لذكرى سيدي الطيب، فنحن نقاسمكم، وأخشى أن أقول ننازعكم حبه وتقديره والتعلق بذكراه.. إن العبد الضعيف الماثل أمامكم يضع نفسه رهن إشارتكم للمساهمة والمساعدة بالمستطاع لإقامة مؤسسة الطيب صالح للآداب هنا في الخرطوم، وفي هذا الصدد فإن مؤسسة منتدى أصيلة تضع رهن إشارتكم كل الأشياء المتعلقة بسيدي الطيب من تسجيلات صوتية ومداخلاته ومناقشاته وأقلامه وصوره في ملتقيات أصيلة، فنحن نريد أن تصبح هذه المؤسسة فضاءً يضج بالحيوية الفكرية، لتبقى شعلة إبداع الطيب صالح متقدة مضيئة للإبداع الأدبي في كل مكان. وفي أصيلة سوف لا نفرط في ثلاثة أشياء: سنتولى بالرعاية حديقته «حديقة الطيب صالح» وسنبقي كرسيه في مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية شاهداً على جلوسه في نفس الزاوية التي يختارها دائماً، أما الذكرى الثالثة فهي غرفته رقم «511» التي يحب الإقامة بها صيف كل عام قرابة ثلاثة عقود في فندق زرش، وهو الاسم الفينيقي لمدينة أصيلة، فصاحب الفندق يتعامل مع الغرفة وكأنها مكان للتأمل أو مهبط للإلهام.. رحمة الله عليك حبيبنا سيدي الطيب.