قلنا الأسبوع السابق إن مذكرة أحزاب المعارضة التي أرسلت بها إلى رئاسة الجمهورية بمطالبها الأربعة، لا ولم ولن تتم الاستجابة لها لعدم معقوليتها، لا من حيث المحتوى الذي لا يختلف اثنان في أهميته، ولكن من حيث التوقيت. إذ لا يستقيم عقلا أن تتوقع تلك الأحزاب أن تتم الاستجابة لمطالبها تلك بعد أن أصبحت الانتخابات المطلوب تأجيلها للأسباب التي حددت، قاب قوسين أو أدنى عن بدء سباقها. وها هو مرشح المؤتمر الوطني وصاحب المصلحة الحقيقية في قيام الانتخابات في موعدها، يجيب على مطالب المعارضة بلاءات ثلاثة، تنفى احتمال أية فرصة للاستجابة لأي من تلك المطالب. فقد قطع الرئيس قول كل خطيب عندما قال بأنه لا تأجيل لموعد الانتخابات، ولا لقيام حكومة قومية، ولا «للكلكة» التي تمارسها أحزاب المعارضة طبعاً. وإن لم يقل بلا لحل المفوضية القومية للانتخابات، فإن ذلك يقع ضمنا في نفي تأجيل موعد الانتخابات. أما «اللكلكة» الحقيقية التي يجب رفضها، فهي التي تمارسها أحزاب المعارضة منذ أن بدأت اعتراضاتها على الانتخابات، واستمرت فيها حتى اليوم. فقد درجت تلك الأحزاب على المطالبة بالممكن والمستحيل، مع التهديد باتخاذ مختلف الإجراءات حالة عدم الاستجابة لها.. ولم تتم الاستجابة لأي من مطالبها، ولم تتكرم هي بتنفيذ تهديداتها، الأمر الذي دفع الحكومة الى عدم الاهتمام لأي تهديد لاحق باعتباره «كلام ساكت». والمؤسف أن هذه الأحزاب مازالت تكرر ذات الحديث وذات التهديد، ولا ندرى ان كانت جادة في إمكانية ان تتم الاستجابة لمطالبها، بما فيها تعديل القوانين المقيدة للحريات التي عجزت عن أن تجبر المؤتمر الوطني على تعديلها والمجلس الوطني منعقد، فتأمل في فعل ذلك بعد أن انفض سامره، كما وتأمل في أن تتم الاستجابة لإعادة ترتيبات الانتخابات من أولها لآخرها، بعد أن أصبح موعد سباق المنافسة على مقاعدها على مرمى حجر، وبعد ان استنفد المتنافسون عليها، بما فيهم مرشحو ذات الأحزاب المطالبة بتأجيلها، استنفدوا جل جهدهم في الطواف على الولايات المختلفة تبشيرا بخوضهم لها، ودعوتهم لجماهير أحزابهم للاصطفاف خلفهم، ومن بعد ما صرفوا من إمكاناتهم الشحيحة كل ما تيسر لهم، ولم يقل أحدهم خلال حملاتهم الانتخابية تلك بأنهم ربما ينسحبون من ميدان المعركة للأسباب التي تقدموا بها لرئاسة الجمهورية، حتى يستمعوا إلى رأى جماهيرهم في كل ذلك. فكيف ستقرر هذه الأحزاب الآن وبعد أن هيأت جماهيرها لخوض الانتخابات، أن تحرمهم من ممارسة حقهم في المشاركة فيها؟ ثم هل فكر هؤلاء في أمر تمويل الانتخابات الذي تم الحصول عليه دعما من مانحين من خارج السودان لا أظنهم سيكررون دعمهم مرة أخرى إذا تم إهدار ما قدموه بسبب تأجيل موعد الانتخابات إلى غيره، وبعد إكمال الصرف على قيامها في موعدها المحدد. حقيقة لم نفاجأ عندما طالعتنا الصحف بأن أحزاب التحالف قد أرجأت قرارها بالنسبة للمشاركة في الانتخابات أو عدمها، أرجأته إلى يوم آخر. فقد ظل هذا القرار يتنقل بين الشهور والأسابيع والأيام منذ نهاية نوفمبر من العام السابق، وحتى السبت 27 مارس الحالي الذي ارتحل منه إلى الثلاثاء أو الأربعاء 29 أو 30 مارس، وكان سبب التأجيل، انتظارهم لرد من مؤسسة الرئاسة على مذكرتهم التي بعثوا بها إليها. يعنى لم يكتف هؤلاء بما صرح به رئيس تلك المؤسسة الذي نفى احتمال اية استجابة لاى من مطالبهم، واعتبر محاولاتهم تلك مجرد «لكلكة» وكأنهم ينتظرون سيادته بأن يقوم بتغيير رأيه الآن، لأن هنالك مذكرة إضافية من الحركة الشعبية أرسلت في ذات الشأن. فالحجة التي ساقتها تلك الأحزاب من اجل تأخير قرارها، غير مقبولة ولا معقولة، فإن كانت جادة في اتخاذ قرارها الذي هددت به أكثر من مرة، كان عليها أن تفعل عصر السبت الموعد المحدد سلفا، وحتى ترتاح وتريح الآخرين من هذه «اللكلكة». أما قصة الحكومة القومية التي تحدثنا عن استحالتها أكثر من مرة، فإن المطالبة بها مرة أخرى والناس على أعتاب انتخابات تريحهم من حكومات التعيين ولحم الرأس، تعتبر مطلباً يعلم طالبوه علم اليقين استحالة تحقيقه. فكيف تنتظر هذه الأحزاب أن يقدم المؤتمر الوطني على اقتلاع حكومته من جذورها وبيده لا بيد المعارضة، وبعد أن تأهبت للحصول على الشرعية الجماهيرية التي ظلت تحلم بها، وتعمل لها منذ أول يوم تم فيه إعلان قيام هذه الانتخابات؟ ثم كيف تتوقعون تصحيح التعداد السكاني، وتصويب تقسيم الدوائر الجغرافية، ثم تقويم السجل الانتخابي، كل ذلك وقد قطعت العملية الانتخابية كل أشواطها وبقى على بدء سباقها أقل من أسبوعين؟ قلنا أكثر من مرة ان أحزاب المعارضة، تباطأت في حسم هذه المشكلات في حينها، فمنذ أن بدأت ملامح تلك الأخطاء في الظهور كان لازماً أن تقف المعارضة عندها وترفضها في وقتها، وبالتالي ترفض كل ما يترتب عليها من أخطاء لاحقة. لكن تلك الأحزاب رضيت بالمعالجات بالقطاعي، فبدأت بتعديل القوانين المقيدة للحريات التي عجزت عن تحريرها، فلجأت إلى الشارع لمساندتها، فافشل المؤتمر الوطني خطتها، عندما منعها التحرك خطوة واحدة، ومن بعد خذلتها الحركة الشعبية التي استفادت من تلك الخطوة رغم عدم اكتمالها، فكسبت بها ما لم يكن ممكنا دونها. ورغم الأهمية القصوى لتعديل تلك القوانين من أجل تكافؤ الفرص بين تلك الأحزاب وحزب المؤتمر الوطني المتحرر من كل قيودها، إلا أن أحزاب المعارضة سكتت عليها بعد فشل محاولتها الأولى، لتعمل على إثارتها اليوم وبعد فوات الأوان. ثم التعداد السكاني الذي قيل إنه مضروب، فترسل المعارضة مذكرة احتجاجية حوله، وقبل أن تجد ردا عليها، يتم تقسيم الدوائر الجغرافية، ويتم اتهامها بأنها فصلت لصالح المؤتمر الوطني، فيتم إرسال مذكرة أخرى بلا إجابة عليها ولا سابقاتها. ويحل السجل الانتخابي، فتقول فيه أحزاب المعارضة ما لم يقله مالك في الخمر، وهو الضامن لنزاهة الانتخابات طبعا. ثم دخلت المفوضية القومية للانتخابات ذاتها ميدان الرفض، بعد أن اتهمت بمولاتها للمؤتمر الوطني، وطبعا طارت مذكرة بخصوصها لرئاسة الجمهورية. والملاحظ عن كل تلك المذكرات، أن الجهة التي ترسل إليها لا تعيرها أدنى اهتمام، ولم يمنع ذلك تلك الأحزاب من الاستمرار فى السير في ذات الطريق. وبقى ان نسأل بعد أن تم تجاهل كل المذكرات السابقة، عن معنى إرسال مذكرة أخرى تجمع بين جنباتها كل ما أرسل من قبل، كأنما سيغير ذلك من تعامل المؤتمر الوطني مع مطالب المعارضة، فيقدم على الرد عليها قبل الموعد المضروب لاتخاذ قرارها بشأن المشاركة أو المقاطعة للانتخابات. والمدهش أن جميع أحزابنا معارضة كانت أو حاكمة، لا زالت تتعامل مع جماهيرها وكأنها قطعان من الماشية تهش عليها بعصا رؤسائها، من أجل توجيهها الوجهة التي تشاء. فالصحف تتحدث عن لقاءات محتملة بين رؤساء تلك الأحزاب، من أجل أن يتنازل مرشح هذا لأجل مرشح ذاك. فمن حق الحزب أن يسحب مرشحه بغرض مساندة مرشح حزب آخر، لكنه ليس من حق الحزب أن يتوقع مجرد توقع، أن تصبح جماهيره التي وقفت خلف مرشحه المسحوب، رصيدا إضافيا للمرشح الآخر. فالمواطن له رأيه حتى فيمن يرشحه حزبه، وظهر ذلك جليا عندما خرج الكثيرون على قرارات أحزابهم برفضهم لمن فرضوهم عليهم، فاقبل بعض الرافضين على ترشيح أنفسهم مستقلين، وهو اكبر دليل على ان الجماهير ليست ملكا لأحزابها، وتستطيع أن تخرج على قراراتها متى أحست بعدم توافقها مع ما ترى. لذلك فإن اى حديث عن تنازل زيد من مرشحي الرئاسة بالذات، لعمر، لا يعنى أكثر من أن يمنح زيد صوته لعمر وليس أكثر من ذلك. ولا يتوقع أحدهم أن الذين قرروا الوقوف خلفه من قبل سيسيرون خلفه أيضا إذا هرب من ساحة المعركة، بل ربما يتجهون عكس وجهته. أما الأفراد الذين قرروا الخروج من أحزابهم التي قامت بترشيحهم لينضموا لحزب المؤتمر الوطني، وبعد أن قطعوا كل هذه الأشواط تحت مظلة أحزابهم، فليتهم أعلنوا أسباب انسحابهم غير الموفق ودواعيه، حتى يكون المواطن المطلوب مساندته لهم على وعى بكل ذلك ليتخذ قراره السليم. وتعكس مثل تلك الممارسات ضعف التربية السياسية لدى أحزابنا. فلو أعلن من يريد الانضمام للحزب الحاكم رغبته في ذلك منذ البداية، على الأقل لتمكنت أحزابهم من ترشيح من يرغبون في السير معها حتى نهاية المدى الانتخابي. أما الذين يدعون إلى تأجيل الانتخابات الآن، باعتبار أنه من الأفضل أن يتم تأجيلها لتقويم أخطائها، نسألهم عن إن كانت تلك الأخطاء عفوية يمكن إصلاحها وبرضاء من أخطأ، أم أخطاء مقصودة لخدمة أهداف محددة، وفى الحالة الأخيرة لا يمكن إصلاحها مهما تمددت فترة التأجيل، خاصة أن مهمة الإصلاح لابد من أن توكل لمن تسبب فيها. فإن كان التعداد السكاني قد تم بطريقة أدت إلى إسقاط بعض المواطنين منه، كما أظهرته شكوى الحركة الشعبية التي تم تعويضها عن ذلك بمزيد من المقاعد بالبرلمان، فهل ستتم إعادة إجرائه مرة أخرى؟ وإذا كانت الدوائر الجغرافية التي تم تقسيمها بناءً على نتائج ذلك التعداد، ومن بعد اشتكت أحزاب المعارضة من أن التقسيم قد عمل على تجميع مناصري المؤتمر الوطني في دوائر محددة، وتشتيت معارضيهم بين الدوائر المختلفة، فهل سيتم إعادة تقسيمها مرة أخرى أيضا؟ وهل يعنى تصحيح أخطاء هذه الانتخابات إعادة النظر فيها بدءاً من مربعها الأول وحتى الآخر؟ وهل تكفى الفترة التي حددتها الأحزاب المختلفة لتصحيح كل ذلك؟ إذ تتداخل خطوات العملية الانتخابية وتتشابك، بحيث لا يصلح تقويم إحداها قبل تقويم أخراها. أما وقد شرعت ذات الأحزاب في ترشيح ممثليها وفى كل مستويات العملية الانتخابية، إضافة إلى بداية واستمرار حملاتها التبشيرية ببرامجها وغيرها من مختلف أشكال الدعاية الانتخابية، حتى أوشكت على الوصول إلى خط السباق، ومن ثم تحاول الآن أن تبرر إمكانية مقاطعتها للمشاركة في ذلك السباق، فلن يعنى ذلك أكثر من هروبها من المعركة، خاصة أن هنالك من بين أحزابها من أعلن استعداده لخوضها حتى إن قاطعتها الأحزاب الأخرى، الأمر الذي يبطل مفعول المقاطعة أو يقلل من آثارها. ثم هل وازنت هذه الأحزاب بين الربح والخسارة جراء قرار المقاطعة قبل أن تقدم عليه إن أقدمت؟ ثم لماذا لا تنظر هذه الأحزاب إلى المستقبل، وتسعى منذ الآن في الاستعداد له، خاصة أن الظروف التي تتوفر للعملية الانتخابية حينها ستكون مختلفة تماما عن الظروف الراهنة، فالتحول الديمقراطي الذي ظلت تصدح به تلك الأحزاب، لا وسيلة إليه ولا طريق إلا عبر الانتخابات القادمة، بصرف النظر عن كل ما يحيط بها من مشكلات، أو ما يقال عنها من عدم نزاهة. فليكن كل ذلك من صفات انتخابات اليوم، لكنه يستحيل أن يصبح صفة أي من الانتخابات القادمة. اتركوا المؤتمر الوطني يجني ثمار جهده الخارق بفوزه الأكيد في هذه الانتخابات، وحتى إن عجزت الأحزاب الأخرى عن مشاركته بأى مقدار من الفوز، فلن يمنعها ذلك من أن تستفيد من درس اليوم لامتحان الغد. لكن أحزاب المعارضة قررت أن تنقض غزلها بيدها، فهي تصر على أن تناطح من أجل عرقلة الانتخابات حتى لا يفوز بها المؤتمر الوطني، ورغم إنها لن تنجح في ذلك المسعى لكل الأسباب التي قيلت أكثر من مرة، فالمؤتمر الوطني بيده القلم وقطعا سيكتب نفسه سعيداً. بينما تلك الأحزاب تفقد فرصتها في المشاركة الممكنة حالياً في الحكم، كما ستفقد فرصتها في المستقبل الذي سيداهمها بعد أربع سنوات، ليجدها في حالها وبحثها عما تهزم به عدوها اللدود المؤتمر الوطني، ثم لماذا لا تستفيد هذه الأحزاب من وعد السيد الرئيس بتكوين حكومة قومية عريضة متى فاز، وهو فائز قطعاً. ومن ثم تتمكن من تحقيق حلمها الوحيد، الحكومة القومية المنتخبة جماهيرياً، وليست مثل حكومة الوحدة الوطنية إياها.