معادلة تبدو في ظاهرها واضحة الحلول، وذلك لأن علم الاقتصاد يشير دون لبس إلى عدد من المقترحات والاشتراطات في حالة التحديث أو تغيير طبيعة عمل المنشأة، أو في حالة الاستغناء عن العمالة، ومن ضمن البدائل والمعالجات المتعارف عليها تطوير العمالة لتواكب التحديث، او ايجاد بدائل عمل اخرى لهم، او تعويضهم، وذلك حتى لا يضاروا، ولكن المعادلة اختلت في معالجة قضية عمال الشحن والتفريغ خارج البواخر بميناء بورتسودان الذين يواجهون مصيراً مجهولاً وواقعاً معيشياً متردياً ومستقبلاً تكتنفه الضبابية والغموض، وذلك على إثر التحديث الذ? انتظم ميناء السودان الاول الذي قضى باحلال الآلة مكان ما يربو على ثلاثين ألف عامل. ورغم تطاول أمد قضية من كانوا يعتبرون عصب الاقتصاد والمحرك الاساسي للحركة التجارية بولاية البحر الاحمر، إلا أن السلطات غضت الطرف عن ايجاد معالجات وحلول تضع حداً لمعاناة عشرات الآلاف من الاسر، واكتفت باطلاق الوعود التي يعتبرها المكتوون بنيران البطالة أنها لم تسمنهم ولم تغنهم من جوع، وانها كسراب بقيع يحسبه الظمآن ماءً، ومن يزور بورتسودان يلحظ بوضوح تفشي البطالة وسط هذه الشريحة التي ترى أن قرار تحديث الميناء لم تسبقه أية دراسة لما يمكن أن تصبح عليه أحوالهم بعد التخلي عن خدماتهم، متهمين جهات لم يسموها بالاستفاد? من الوضع الجديد الذي يعني تشريدهم، بحسب قولهم، ودعوا الحكومة لخلق بدائل أخرى بعد تنفيذ القرار الذي وصفوه بالمجحف، وأبدوا دهشتهم من صدور قرار دون إيجاد بدائل حقيقية تعالج قضيتهم، مشيرين إلى عدم قدرة عمال الموانئ على التعامل مع المهن الأخرى، مؤكدين توقف العمل بكثير من المخازن «والغرابيل والقشارات» بعد القرار، مطالبين الحكومة بالتدخل العاجل وإيجاد فرص عمل بديلة أو استيعاب بعض العمال ضمن العمالة المستدامة في الميناء، موضحين معاناتهم مع البطالة وعدم قدرتهم على مجاراة متطلبات المعيشة في ظل غلاء طاحن تعيشه البل?د، بحسب قولهم، وذكر نائب رئيس نقابة عمال الشحن والتفريغ حسين الخليفة في تصريحات صحفية، أن هناك تجاهلاً لما وصفه بالمعضلة التي يواجهها آلاف العاملين، مبدياً تخوفه من أن يؤدي ذلك إلى ردود فعل سلبية، مطالباً الدولة بالتدخل لحل هذه القضية. وكان ميناء بورتسودان شهد تحديثات كبيرة، وذلك بعد أن طالت إداراته المتعاقبة انتقادات حادة من قبل اقتصاديين ومصدرين وموردين، وذلك بسبب بطء عمليات التخليص وتفريغ وشحن الحاويات، وارتفاع تكلفة رسوم الأرضيات التي تؤخذ على الحاويات بسبب التأخير الذي يؤكد موردون أن ادارة الميناء هي المتسبب المباشر فيه، مرجعين هروب السفن الكبرى الى موانئ اخرى بالمنطقة، وذلك لتخلف عمليات التفريغ وبطء الاجراءات وكثرة الرسوم، وهو الأمر الذي قابلته وزارة النقل وادارة الميناء بعمل مكثف يهدف لتحديث العمل وادخال الآليات والتقنيات المتطورة? وخلال الفترة الماضية أسفرت الجهود عن تنفيذ مشروع أرصفة الحاويات الجديدة بالميناء الجنوبي بتمويل ذاتي من هيئة الموانئ البحرية، ويتضمن المشروع تشييد رصيفين و «4» كرينات جسرية، و«4» رافعات مطاطية، بجانب تشييد أربعة مسارات للرافعات المطاطية من جملة «8» مسارات، وإنشاء محطة كهرباء جديدة بطاقة «9» ميقاواط، ويتكون مشروع أرصفة الحاويات الجديدة بالميناء الجنوبي من رصيفين بطول «791» متراً، وتجهيز ساحات تخزين ومناولة وطرق داخلية بمساحة «620» ألف متر مربع، وبناء محطة كهرباء احتياطية، وبناء وتجهيز ورش متكاملة للآليات و?لمعدات، بالإضافة إلى معدات مناولة تتمثل في «4» كرينات جسرية حمولة «65» طناً و «8» كرينات رص بالساحات حمولة «45» طناً. وتم تمويل المشروع والإشراف عليه ذاتياً من قبل هيئة الموانئ البحرية. وتم تنفيذه عبر الشركة الصينية للهندسة الملاحية (C H E C). هذا وكان العمل قد بدأ في تنفيذ المشروع في أكتوبر 2006م. ويستهدف المشروع رفع طاقة الميناء الاستيعابية. ورغم أن الضرورة فرضت تحديث الميناء، ولكن لم تحظَ قضية عمال الشحن والتفريغ الذين كانوا يقومون بمعظم العمل داخل الميناء بالاهتمام، رغم ان نقابتهم سعت مبكرا وتحديداً منذ عام 1998م لإيجاد معالجات استباقية لمخاطر التحديث على عمال الشحن والتفريغ، ودفعت بالعديد من المقترحات والحلول التي ظلت حبيسة ادراج المسؤولين ولم تر النور، ليزداد وضع هذه الشريحة تعقيداً بحسب ما هو ماثل ببورتسودان، حيث أضحى 70% تحت خط الفقر بحسب دراسات غير رسمية. ورغم التأكيد على تأثر عمال الشحن بالتحديث، يؤكد رئيس اتحاد وكلاء التخليص عبد الله حسن عيسى في حديث ل «الصحافة» أن الضرر الذي وقع على عمال الشحن والتفريغ لم يتسبب فيه التحديث، ويقول: «اعتقد ان ارتفاع تكلفة الارضيات وعمليات المناولة ورسوم الاجراءات الاخرى داخل الميناء ألقت بظلالها السالبة على حجم العمل الكلي الذي بات يتسم بالبطء، وهو الأمر الذي جعل معظم عمليات الصادر تتم في مدن اخرى كالقضارف والخرطوم وغيرها، وحتى على صعيد الواردات اتجهت السفن الكبرى أخيراً نحو الموانئ الأقل تكلفة، وذلك بسبب زحمة الحاويات وب?ء عمليات انزالها التي تكلف البواخر أموالاً باهظة وكذلك الموردون والمصدرون، واعتقد ان التحديث ودخول الآليات سيسهم بصورة مباشرة في ارتفاع سرعة ايقاع العمل، وهذا بدوره يقود الى انتعاش اقتصادي للولاية والمدينة وعمال الشحن»، ويضيف: «الميناء يمضي بخطوات جيدة نحو التحديث وتطوير وسرعة الاداء والاجراءات، وهذا امر جيد لأنه سيجذب دولاً كثيرة للتعامل عبره. وهنا اطالب الدولة بايلاء ميناء بورتسودان اهتماماً خاصاً، وذلك لأن تطوره سيجعل منه بترولاً آخر يضخ اموالاً مقدرة في خزانة الدولة». وكانت هناك أنباء قد رشحت عن اهتمام الدولة وحكومة الولاية بقضية عمال الشحن، ولكن رئيس جمعية عمال الشحن والتفريغ خارج البواخر حامد محمد آدم، نفى في اتصال هاتفي مع «الصحافة» استجابة الدولة واهتمامها بقضيتهم، مؤكداً تأثرهم بعمليات التحديث التي جعلت الآليات تحل مكان عمال الشحن، غير انه أكد أنهم ليسوا ضد التحديث، ولكن ضد تعرض عمال الشحن لخطر ومصير البطالة والتشرد. وقال: «حتى تكون هناك معالجات جذرية أقمنا ورشاً وسمنارات استباقية في عامي 1998 و2002م، وخرجت بتوصيات واضحة تذهب ناحية معالجة قضية عمال الشحن قبل أن تست?تحل وتصبح أزمة، ولكن للأسف كل المقترحات الموضوعية التي رفعناها للجهات المختصة لم تجد استجابة، بل حتى الثلاثين مليار جنيه التي تبرع بها الأخ رئيس الجمهورية قبل عام لم نستلمها حتى الآن، وبصفة عامة أؤكد أن التحديث واقع لا يمكن دفعه، ولكن كان يجب أن تتبعه حلول تنصف من اعطوا انضر سنوات عمرهم خدمةً للسودان في مجال الشحن والتفريغ». وأكد آدم ضرورة استيعاب العاملين في الشحن والتفريغ بالميناء داخل البواخر ضمن العمالة المستدامة بهيئة الموانئ البحرية، ومنح مشروعات إنتاجية لبقية العاملين، وتمييز أبنائهم في الحصول على?الفرص التدريبية. ومن جهته طالب أستاذ الاقتصاد في جامعة البحر الأحمر طه بامكار، الحكومة بعقد مؤتمر قومي لمناقشة الآثار السلبية على العمالة اليدوية بسبب تحديث آليات المناولة والموانئ، وقال إن التحديث ضرورة اقتصادية لتواكب موانئ السودان تطور الحركة المينائية في العالم، لكنه أكد أنه من الضروري التفكير قبل ذلك في امتصاص الآثار السلبية على العمال البسطاء، واقترح بامكار أن يتم استيعاب أبناء العمال في أماكن عمل مستقرة، ومنحهم تمييزاً إيجابياً وأفضلية في تلقي التدريب في مراكز مهنية فنية، ومنحهم قروض تمويل لخلق فرص معيشية حقيقية لهم? مشيراً إلى أن عدد العمال المهددين بالتشرد يمثل رقماً مزعجاً ينذر بأوضاع معيشية سيئة، في ظل الفقر المنتشر أصلاً بشرق السودان، حسب تعبيره.