والبلاد تخطو الى عامها الخامس والخمسين منذ ان اعلنت إستقلالها وسيادتها والى اليوم مازالت تتأرجح بين الديموقراطيات الهشة، والأنظمة الشمولية القابضة، وخلال هذا الوقت مرت بكثير من التحولات والتجارب فى رحلة البحث عن الإستقرار المفقود وكيفية نظام الحكم الذى ظل يتشكل مع السلطة القائمة وتفصيل دستور يتناسب مع رؤية من يحكم فقط، الا ان النتائج ظلت ثابتة والمحصلة صفر مخلفة دوامة من الصراعات والمشاكل نتيجة لإقصاء الآخر، وشهدت الفترة الأخيرة من عمر البلاد تحركات جادة من قبل منظمات المجتمع السياسية والمدنية بمختلف مسميا?ها وتوجهاتها من أجل البحث عن مخرج للأزمات المتكرره بعد ان أقر الجميع ان المشكلة فى المقام الأول هى ازمة «دستور» وتواثقت مجموعات عريضة من مكونات المجتمع السياسية والمدنية على ضرورة صياغة دستور جديد يكفل المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان ويجاوب على سؤال «كيف نٌحكم»، ويراعى المتغيرات الحالية ويضمن الشفافية والمشاركة والإجماع واخذ الدروس والعبر من التجارب المشابهة لتفادى الفشل والخروج من الحلقة المفرغة التى ظل السودان يرزح فيها منذ خروج المستعمر. وفى رحلة البحث عن دستور يسع الجميع إحتضنت جامعة الأحفاد امس ورشة عمل بعنوان « رؤى لصناعة الدستور فى السودان» تستمر لثلاثة ايام بمبادرة من المجموعة السودانية لصناعة الدستور والمعهد الإقليمى لدراسات النوع وحقوق الإنسان والسلام، ومركز الأيام بالإضافة الى معهد الدراسات الإنمائية بجامعة الخرطوم، وبمشاركة مجموعة كبيرة من الأحزاب السياسية والخبراء الأجانب ومنظمات المجتمع المدنى ووسائل الإعلام المختلفة، واجمع المشاركون على ضرورة صياغة دستور جديد يختلف عن الدساتير السابقة جملة وتفصيلاً مضموناً ومحتوى وانه حان الو?ت لتقديم نموذج للحكم يجعل ماتبقى من السودان قادراً على التعايش مع بعضه البعض. وفى بداية الورشة تحدثت الخبيرة فى صياغة الدستور كرستينا موراى مستعرضة تجربة بلادها جنوب افريقيا وتجربة كينيا التى شاركت فى صياغتها وقالت ان الدستور فى بلادها ركز على تغيير صبغة التاريخ السياسى الذى إتسم بالتميز العنصرى وإقصاء الآخر الى ترسيخ الشعور القومى ووحدة الهوية الوطنية بتضمين حقوق الجميع ومشاركتهم فى صياغة المستقبل وشعور كل فرد من المجتمع ان الدستور يعبر عنه ولذلك عمدنا ان نراعى وجهات النظر المختلفة ووضع وثيقة قابلة للإنفاذ بصورة مهنية وإحترافية اساسها الديموقراطية، وتحدثت كرستينا عن التجربة الكيني? وقالت انها من احدث الدول التى توصلت الى صناعة الدستور خاصة ان العملية قادها الشعب بعد ان ظلت كينيا تعانى عقب الإنتخابات من نظام مارس كافة أشكال القمع والظلم والتهميش ووحشية الشرطة والتخلف الإقتصادى والفساد، الى أن توصلوا اخيراً بفضل المجتمع المدنى الى دستور فيه فرصة حقيقية للمشاركة اعطى المهمشين فرصة لتضمين حقوقهم. وتحدث ايضاً الخبير الأمريكى فى صياغة الدستور جيسون قلواك والذى شارك فى صياغة التجربة العراقية، وقال عملت فى صناعة الدستور مع انى لست عراقياً ولكن عشت فترة طويلة فى هذا البلد، ودعا جيسون للإستفادة من التجربة العراقية وقال انها مهمه لتفادى الأخطاء التى عصفت بها فى مهدها، واوضح ان الدستور فى لحظة صياغته كانت العراق تعانى من الإحتلال على حد تعبيره بالإضافة الى انه لعب دوراً كبيراً فى صياغته وكان الهدف منه نقل السيادة والسلطة الى العراقيين مع الأخذ فى الإعتبار ان العملية تمت فى حيز زمنى ضيق جداً لم يهدف الى حل ?لقضايا من خلال الدستور بل التوصل الى اهداف بعينها من خلاله بجانب انه لم يخضع للبحث والتداول ومشاركة الآخرين لأن البلاد كانت ترزح فى الحرب ولايوجد إستقرار ولم تكن هناك فرصة لتثقيف الناخبين، ما ادى ذلك الى انعدام الثقة بين مختلف قطاعات الشعب العراقى وهذا ادى الى إحجام السنة من المشاركة فى عملية صناعة الدستور لذلك كانت العملية ناقصة وشارك فيها فقط «الشيعة والأكراد» بحوالى (50) فرداً الا ان العملية فى النهاية خرجت من اربعة اشخاص فقط مناصفة بين الشيعة والأكراد مع غياب السنة تماماً، لذلك فشل دستور العراق تماماً ?ن القيام بواجبةه واعتبر من الغالبية انه غير شرعى لانه فشل فى خلق الاجماع وصياغة القيم الجوهرية والهوية المشتركة وفشل فى إلزام قادة العراق بالديموقراطية، لذلك يجب اخذ التجربة فى الإعتبار لتفادى الأخطاء التى وقعت فيها. وشدد القيادى بالحزب الشيوعى صديق يوسف على إلتفاف الجميع فى هذه الفترة على وثيقة إعلان مبادئ للدستور فقط وليست صياغته وقال من المستحيل صناعة دستور فى ظل النظام الحالى ورهن الأمر بقيام حكومة إنتقالية تشارك فيها كل القوى السياسية يتم فى عهدها صياغة الدستور، وقال يوسف ان الوضع الحالى فى البلاد يشابه تماماً التجربة العراقية التى تمت فيه صناعة الدستور الذى لم يعترف به احد، وقال ان (12) من جملة التعداد السكانى الأخير فى البلاد يعانون من الحرب فى مناطق دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، والبقية يعيشون فى اجواء غير?ديموقراطية وكبت للحريات، وقال «التجربة العراقية تكفينا». الا ان القيادية بحزب الأمة القومى سارة نقد الله رفضت مقارنة الوضع الحالى بالبلاد ماحدث فى العراق وقالت لا يمكننا الإنتظار لعشر سنين قادمات لصياغة الدستور واكدت ان الشعب السودانى يعى دوره تماماً وقادر على تجاوز المرحلة وصناعة مستقبله وتحديد كيف يُحكم. وتحدث الأمين السياسى لحزب المؤتمر الشعبى كمال عمر بوجهات نظر متطابقة مع القيادى بالحزب الشيوعى صديق يوسف وقال انه لابد من ازاحة النظام الحالى اولاً من الحكم وإقامة حكومة انتقالية بمشاركة القوى السياسية المختلفة ومن ثم صياغة دستور يعبر عن الجميع، وتابع عمر ان الأزمة الحالية التى تعانى منها البلاد هى فى المقام الأول ازمة دستور تسببت فى ازمات سياسة ادت الى انفصال الجنوب وقال ان النظام الحالى مازال يمارس جرائم لاتقل عن تلك التى حدثت فى جنوب افريقيا من ظلم وقبلية وتمييز عنصرى، واوضح ان دستور 2005 كرس السلطة ف? يد رئيس الجمهورية، وشدد عمر على ان المناخ الحالى لا يصلح لصياغة الدستور بل اعلان مبادئ حوله. وتناولت الورشة ايضاً عدداً من المبادئ العملية لصناعة الدستور بصياغة حقوق الإنسان الأساسية ومراعاة الشمول والمشاركة والشفافية والتوافق وخلق اجماع وطنى والإهتداء بالتجارب المشابهة وتفادى اخطاء الماضى.