إن الغرض من هذا المقال هو مسح لحالة التمويل الأصغر وإلى أيِّ مدى لا يزال يخدم القطاعات الفقيرة من المجتمع، وما إذا كان النقد الذي يوجه إليه سواءً أكان في الصحف أو في التلفاز يعتبر له معنىً أو مبرراً، وما هي حالات المشروع المستمرة في خدمة النساء الأفقر اللاتي ينافحن ضد التفرقة الاجتماعية والثقافية من أجل استقلالهنَّ المالي. وهذا المشروع الذي يطبق الآن في السودان بدءاً بمشروعات الشباب وهو ليس للشباب حصراً يعتبر ثمرة لجهد عالمي ابتدر في بنغلاديش في وسط القرى الفقيرة، حيث تعتمد إعالة الأسرة على الم?أة، وقد ابتدر المشروع بواسطة البروفيسور يونس وبعدها حدث تطور مرحلي بإنشاء «بنك جارمين» وهو نموذجٌ احتذت حذوه برامج المعونات التنموية وبرنامج منظمة العمل الدولية في ما يختص بمساعدة المرأة الريفية الفقيرة. وتوسع انتشار المشروع وتطبيقه واكتسب شهرة في آسيا والمنظمات المانحة للعون، وبذا اكتسب عالميته وطُبِّق حتى في ولاية أركنساس الفقيرة في الولاياتالمتحدة عندما كان حاكمها كلينتون الذي أصبح فيما بعد رئيساً للولايات المتحدة، وبدأت بعض البنوك وبيوت المال العالمية تمول مشروعات التمويل الأصغر، إذ اعتبرت آلية ناجحة ?دينامية في معالجة عدم التوازن واختلال اقتصاد السوق بالنسبة للقطاعات الفقيرة في المجتمعات التي تعمل بآليات اقتصاديات السوق. وتبع ذلك وبعد نجاحات هذا المشروع، أن مُنح البروفيسور يونس جائزة نوبل على مبادرته وإسهامه في قيام المشروع. إن اتساع تبني مشروع التمويل الأصغر في مرحلة العولمة، نتج عنه تشعب وتنوع السبل والأساليب على اختلاف البلدان وتعدد تجاربها، ويدخل في ذلك تعدد أهداف المانحين والممولين وأفضلياتهم في المعاملة في ما يختص بتعاونهم الدولي. ولقد أدى ذلك إلى السؤال عما إذا كان المشروع لا يزال فعلاً يفي باحتياجات الفقراء والباحثين عن العمل الذين ليس لديهم ضمانات للتمويل؟ فالآراء قد تختلف نسبة لتعدد الدارسين والباحثين وتوجهاتهم. إن الإجابة على السؤال قد تكون سهلة إذا وضح في مخيلتنا الهدف الأساس لمثل هذا المشروع، وهذا الهدف هو: أن الت?ويل الصغر ليس الحل الوحيد للتقليل من الفقر، ولكنه بالقطع آلية فعَّالة لتحسين وترقية حياة الفقراء وتوسيع المشاركة في الاقتصاد. فالمعلومات الحقيقية للدراسات الميدانية التي أسهم فيها «بنك جارمين» في بنغلاديش ومؤسسة «جرامين» في الولاياتالمتحدة أثبتت ذلك، وأشير هنا إلى الدراسات التي قام بها بروفيسور جولدبيرج وأورديل. أما في ما يختص بآثاره على التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية والمساعدة في تمكين المرأة فإن النتائج غير معلومة، وإنما النتائج المعلومة كانت في نمو الأعمال الصغيرة وتطورها لأعمال ناجحة كما حدث في ق?رص مثلاً. إن الآثار الإيجابية لمشروع التمويل الأصغر ينبغي أن تقيَّم على أسس بحثية حقيقية بعيداً عن الأفكار الآيديولوجية والعاطفية، فالتمويل الأصغر ليس عملية عَرَضيَّة بل عملية استمرارية لتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الاقتصاديات المتقدمة والنامية على السواء، وهذا الدور مستقبلي عندما يصبح التمويل الأصغر عملية مستمرة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. إننا نستطيع أن نصل إلى هذه الغاية إذا وسَّعنا من شبكة التمويل الأصغر لتشمل عددية أكبر من المستفيدين من ذوي الأعمال الصغيرة والمتوسطة والقطاع غير الرسمي، ?ذا بالإضافة إلى المرأة في الريف والشباب غير المشاركين في العملية الاقتصادية. إن هذه الغاية إذا وصلناها فإننا نستطيع أن نوسِّع من الطبقة الوسطى عن طريق التمويل، إذ إن الطريق لتنمية الاقتصاد لا يمكن أن يكون بمحاربة الفقر فقط. ولا يمكن أن يكون هذا هدفاً عاجلاً على حساب أصحاب الاحتياجات الضرورية، وأن تنوع مصادر التمويل وخدماته ينبغي أن تنوَّع في خدماتها وفق استراتيجيات وآليات خاصة تمكِّن المرأة مثلاً بوصفها مستفيدة من القضاء على تفرقة «الجندر» في عالمنا الذكوري، وذلك عن طريق إنشاء ودعم تعاونيات المرأة المستفيد? من مؤسسات التمويل الأصغر. لقد برهنت تجارب وخبرات مكتب العمل الدولي في جميع أنحاء العالم، على أن المرأة في المجتمعات التقليدية في آسيا وإفريقيا تقوم بإعالة العائلة الفقيرة كما في السودان ولكنها في نفس الوقت ليست لديها الصفة التي تمكنها من الاستفادة من مراكز التمويل، وهذا مما يتطلب إنشاء المصارف والمراكز التي تتخصص في تقديم خدمات التمويل للمرأة العاملة وروابطها وتنظيماتها. إنه مما يسرنا أن يصبح التمويل الأصغر واقعاً معاشاً في بلادنا، فقد كانت بلادنا من أوائل بلاد العالم التي علمت بهذه التجربة الإنسانية، ولقد دعونا بروفيسور يونس?عن طريق مكتب العمل الدولي ووزارة العمل السودانية لزيارة السودان، وفعلاً حضر في أواخر السبعينيات وكتب تقريراً، ولكن نسبة لعدم وجود الإرادة السياسية والإدارة المستقرة لم يرَ المشروع النور. وفي بداية هذا القرن عاصرتُ بداية هذا العمل من موقعي في منظمة العمل الدولية، تحت إشراف سيدة شابة عظيمة من سيدات السودان تقترح وتبادر ولا تنتظر حاكماً ليأمر أو ضغوطاً تملي عليها الانهزام أو التراجع، ولا تهاب ولا تخاف، مسلَّحة بالعلم والثقافة، تشعُّ حكمة وعمقاً في رسالتها ومكوناتها التي تتعدى القبلية والجهوية والطائفية، فنجحت?مقاصدها بأن أصبح التمويل الأصغر سياسة دولة تسندها الإرادة السياسية والإدارة النافذة القوية. إن هذا المقال للذين لا يعرفون قد كُتب تكريماً للسيدة هبة محمود مؤسِّسة ومديرة التمويل الأصغر ببنك السودان، التي عُيِّنت وزيرة دولة بوزارة التنمية البشرية أخيراً. * وكيل وزارة العمل والخدمة المدنية الأسبق وكبير مستشاري منظمة العمل الدولية سابقاً