صراع المناصير مع الحكومة، أو بالأحرى، الحرب الباردة بينهما، يمكن وصفها بأنها حالة من المد والجزر..حالة مقتبسة من جوهر المشكلة..الإغراق الذي حدث على أرض المناصير بسبب تشييد سد مروي، وصار لزاماً، بناءً على ذلك، تهجيرهم إلى أماكن أخرى أكثر أمناً، وهو ما كان يرفضه المناصير في بادئ الأمر، ثم قبلوا به مقابل تعويضات ووعود لم تحقق لهم بالكامل، ثم كان خيارهم الأخير هو الإعتصام لحين تحقيق المطالب، مستصحبين صدر بيت الشعر:(على المرء أن يسعى إلى الخير جهده)، كافرين بعجزه: (وليس عليه أن تتم المطالب). لجأ المناصير إلى (ضهر) الربيع العربي، والفضائية العربية، فاستلهموا منهما القوة والصبر. انتهج المناصير ذات النهج الذي سارت عليه الثورات في تونس ومصر وسوريا واليمن..التجمع في ساحة معينة، وإطلاق اسم معين عليها، وتسمية الجمعات بمسميات معينة..حتى عقد القِران وإتمام الزيجات في الميدان لم يغب عن اعتصام المناصير. الحكومة بلا شك أقوى من المناصير، وأكثر دهاءً ومكراً منهم، لكنها مع ذلك لا تستطيع أن تفضّ اعتصامهم بالقوة. موقف الحكومة من المناصير ذكّرنا بطفولتنا، وأعادنا للوراء عشرات السنين. المناصير يستفزون الحكومة، يخرجون لها ألسنتهم ثم يختبؤون خلف أخيهم الكبير القوي..الحكومة تكاد تميّز من الغيظ..لكنها لا تستطيع معاقبتهم..لسان حالها يقول:(لو انتو رجال طالعونا الخلا..بعيدا عن الربيع العربي..عشان تعرفوا حاجة..إلا حمار الوادي يكورك). الحكومة تعلم علم اليقين، من خلال قراءتها السليمة للواقع السياسي الراهن في المنطقة العر?ية أن العنف لم يعد يجدي فتيلاً في التعامل مع التظاهرات والاعتصامات. قطرة الدم تجرّ بعدها قطرات..ومن يخسر أخاه أو أباه أو ولده، فليس لديه من وما يخسره بعد ذلك. أرض السودان صارت مليئة بالألغام السياسية والاقتصادية والأمنية..لذلك تتلمس الحكومة طريقها بحذر شديد مخافة أن تطأ قدماها على أحد تلك الألغام. هي الآن تنتهج سياسة شعرة معاوية في تعاطيها مع المشكلة.. ترخي الشعرة حتى يملّ المعتصمون ويرحلوا. الحكومة الآن في موقف لا تحسد عليه!! المناصير من خلفها..وبحر الربيع العربي من أمامها..وهي لا تملك عصا موسى، كما قال المسؤول، لتفلق البحر نصفين، فتنجو هي وتغرق المناصير، الذين يستدعون الربيع العربي بأعلى صوتهم ل(يعصروا الحكومة في النص) ويهزموها. اعتصام المناصير استقطب الكثيرين ممن يحملون موجدة على الحكومة..يغني المناصير وكل يبكي و(يشيل وراهم) ليلاه..هناك من يبكي فردوسه المفقود في 89م..وهناك من يبكي فردوسه المفقود في رمضان 2000م.. وهناك الفقراء - أهل الصفّة السياسية - الذين لم يذوقوا طعم تورتة السلطة البتّة..كذلك يبكون ليلاهم مع الباكين. (الشيالين) - أصحاب الموجدة - يقدمون (المديدة الحاااارة) على (كورية) من ذهب، ليحتدم الصراع، ويخطفوا هم التورتة، بإفتراض أن المناصير ليسوا حزباً، ولا يسعون للسلطة. اعتصام المناصير صار أشبه بكرة ثلج، تتضخم كل يوم في حراكها المتسارع المندفع تجاه الحكومة بقوة، فهل تتفاداها بذكائها ودهائها المعهودين، أم أن الضغوط الخارجية والداخلية الكثيرة قد تفقدها تركيزها، فيفلت الخطام من يديها وتفقد بالتالي ناقة السلطة؟ الحكومة تتبنى سياسة تفويت الفرصة وتجنب الصدام..بينما المناصير يتحدونها..يتبعون سياسة (تفويت تفويت) الفرصة، وسياسة النفس الطويل..يؤمنون بأن الموجة ضعيفة..لكنها تستطيع تفتيت الصخرة بكثرة الارتطام عليها ولو لآلاف المرات. اعتصام المناصير أشبه بقطعة فحم بدأت لتوها في التوهج?.الحكومة الآن حائرة إزائها!! تريد أن تنفخ فيها لتطفئها..لكن تلك المحاولة قد تؤدي إلى نتيجة عكسية..ومعظم النار من مستصغر الشرر. نتمنى أن ينال المناصير، وكل من له حق على الحكومة، أن ينالوا حقهم كاملا غير منقوص..لكن ما لا نتمناه هو أن يصير السودان مثل الصومال..دولة بلا حكومة..أو مثل العراق..دولة تسودها الفوضى..أهم أحداثها هي التفجيرات، والإغتيالات، والموت الجماعي. هناك ثلاثة تداعيات منطقية حتمية لإعتصام المناصير: إما أن يملّوا وييأسوا من استجابة الحكومة لمطالبهم، فيفضوا اعتصامهم بصورة تلقائية سلمية، ويعودوا لبيوتهم بخفي حنين (وهو ما تتمناه الحكومة ليل نهار). وإما أن يملّوا من تهميش الحكومة وتجاهلها لهم ولمطالبهم، فيفقدوا ضبط النفس، فيتطور اعتصامهم إلى ما هو أبعد من ذلك، فتطير شرارة وتشعل الهشيم، وتندلع الثورة وتقضي على الأخضر واليابس،(وهو ما لا تتمناه الحكومة). وإما أن تستشيط الحكومة غضباً من استفزاز المناصير المتواصل لها، فتفقد صبرها وكونترولها، فتشعل هي الشرارة و?حاول فض اعتصامهم بالقوة، فيستدعي هذا التصرف رياح الربيع العربي. أما الخيار المستبعد (وليس المستحيل) هو أن ترضخ الحكومة للمناصير وتلبي مطالبهم، وذلك لسببين: الأول هو أن الحكومة لم تتعود أن يتجرّأ أحد ويعتصم أمامها لقرابة الشهر، ويملي عليها شروطه، ناهيك عن أن تستجيب لطلبه. الثاني هو في حالة استجابتها لمطالبهم، ستستغل المعارضة هذا الموقف الإيجابي من الحكومة أسوأ استغلال، وتقول إن الحكومة ضعيفة وهشة، بدلالة استجابتها للمطالب تحت الضغط، وسيدفعها ذلك إلى مزيد من المعارضة (الكمية والنوعية)..أيضا، سيفُتحُ باب واسع?أمام مَطالب متعددة.. ومُطالبين متعددين، يصل عددهم مئات الجماعات والأحزاب والإثنيات، ويصل عدد مطالبهم إلى آلاف المطالب، سيبحثون عن أقرب ميدان يفترشونه ويطلقون عليه ميدان الحرية أو الديمقراطية أو ...