ولكن بماذا يحتفلون ولماذا يحتفلون، ذينك هما السؤالان الأهم من الاحتفال نفسه، يقولون إنهم يحتفلون بالذكرى السادسة والخمسين للاستقلال، حسناً تلك عادة دولية درجت عليها كل الدول التي رزحت تحت الاستعمار الاستيطاني ردحاً من الزمان ثم غادرها المستعمر بإرادته في بعض الحالات ورغم أنفه في حالات أخرى، وأصبح يوم خروج المستعمر عيداً لهذه الدول والشعوب تحتفل به كل عام ابتهاجاً بتحررها واستعادة حريتها بتسنم بنيها زمام أمرها للانطلاق بها نحو الريادة والسؤدد والرفعة والنماء والتنمية والرفاه والعزة والتقدم، هذا هو مغزى ومعن? الاحتفال بعيد الاستقلال، ولكن حين تفارق الاحتفالات هذه المعاني ويكون الحصاد صفراً كبيراً بعد مرور كل هذه العقود على الاستقلال بل ويتدهور الحال إلى الأسوأ للدرجة التي جعلت البعض يتحسر على أيام الانجليز ويتمنى لو أنهم لم يخرجوا في ذلك التاريخ، فإن الأمر يحتاج إلى وقفة صادقة مع النفس ومراجعة شاملة للأداء العام والحصاد الوطني أكثر من الحاجة إلى احتفال مظهري استعراضي تتكرر فيه ذات المشاهد والخطب المكرورة كل عام، بينما يبقى الحال والمآل على ما هو عليه بل أدنى من ذلك حتى يبدو احتفالنا وكأنه احتفاء بالخيبة والسرا? الذي يحسبه الظمآن ماءً، والحساب ولد.... ماذا أنجزنا بعد مضى ستة وخمسين عاماً على الاستقلال، والأحرى ماذا أنجزت الانقاذ وهي التي قضت في حكم الوطن لوحدها ما يقارب نصف هذه المدة - أكثر من اثنين وعشرين عاماً والساقية لسه مدورة والساعة بخمسة جنيه والحسابة بتحسب، ما الذي يدعو أهل السودان للفرح بيوم عيدهم الوطني وهم يعيشون الضنك ويكابدون المآسي وينظرون للغد بالكثير من القلق المشوب بالحذر والتوجس من القادم الذي نسأل الله التخفيف فيه على هذا الشعب الطيب الذي لا يستحق ما يجري له وهي تحديات داخلية أكثر منها خارجية، وأكثرهم يواجه التحدي الأكبر الذي يبقيه ره?ناً لحالة واحدة هي المكابدة والمكافحة المستمرة من أجل لقمة العيش بعيداً عن الشعارات الكذوبة، الأجدر بنا أن ننصب سرادق لتلقى العزاء والمواساة على حالنا وليس اقامة صيوانات الفرح وبث الأناشيد وتعليق الثريات، فلماذا نفرح بالاستقلال ومن أين نأتي بالفرح والبلاد مازالت تراوح مكانها كالمنبت لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت والدنيا من حولها تتطور بسرعة بينما تبقى هي محلك سر تذرف الدموع على الدماء المهدرة والتنمية المضاعة والحرية الضائعة والوطن المبتور والصراع الذي يدور بلا نهاية وليته كان حول جسد كامل العافية، إنه للأس? أشبه بصراع (القمامون) من الحيوانات التي تأكل القمامة على الجثة الهامدة، وما يؤسف له أكثر أن كل هذه الجنايات والتعديات التي ارتكبت في حق البلاد إنما تمت وتتم تحت ادعاء حب الوطن وباسم الوطنية وتحت لبوس الدين وكلها من هذا الادعاء براء، فكلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا، فرجاءً إرحموها ولا تكونوا ثقلاء تفرضون عليها ما لا ترغبه بالحديد والنار...