ارتعشت أوصالي وعاصفة من الحزن اجتاحت قلمي المرهف، وأنا اشاهد بأم عيني معلما يسدي بنصح قاس ملتهب لتلميذه، ثم اعقبه بصفعة حارقة ذابت بخده الندي وكادت تغوص في جفنه اللدن! وذلك عندما تعثر الطفل في الاجابة على سؤال معلمه، فتلعثم حتى كادت تنحبس انفاسه اللاهثة، امام ثلة من رصفائه الذين جحظت اجفانهم، وتطاير منها الشرر، صوب معلمهم الفظ غليظ القلب! كان هذا المشهد داخل احد فصول الدراسة بمدرسة كنت قد زرتها في مهمة تربوية. كان سؤال المعلم لتلميذه سهلا وميسورا، ويتطلب قليلا من جهد الذاكرة، ولكن تلاشت الاجابة من ذهن الصغير للرعب الذي صحبها، والقسوة التي حطت برحالها. وعندما هدأت عاصفة الغضب الهوجاء، همست في اذن تلميذي البريء، وبسمة عذبة ارتسمت على وجهي علها تسهم في اذابة جليد الذعر! وسألت صغيري هل كنت ملما بالاجابة على السؤال؟! فرد بالإيجاب وبكلمات مترعة بثقة النفس، حُبست الاجابة من الانطلاق، لما اصاب صغيرنا من خوف ثقيل! مشهد اثار حفيظتي وألهب مشاعر غريزتي المهنية، واشعل وجداني مما جعلني اعدو مسرعاً صوب بعض رصفاء الحرف والكلمة.. طارحا عليهم ما حدث.. وعند سماعهم لما طرحت، تجهمت وجوههم ، وفاضت قلوبهم غيظا وانبرى احد شيوخ المعرفة من بين الجمع، متحدثا والغبن يملأ جوانحه، عن آثار العقاب البدني المؤذي وليس المبرح، ثم قال محدثنا بصوت انكهته السنون: يدور هذه الايام في ردهات دور العلم جدل ملتهب حول العقوبة البدنية على التلاميذ بمدارسنا .. واردف قائلا: إن العقاب البدني فرض نفسه منذ زمن غابر بمدارسنا يومذاك، ولم ينل مثل هذا الجدل الساخن حظه آنذاك .. فلماذا؟! الاجابة سهلة هي لثقتنا المفرطة وفي ذلك العصر الذهبي للتعليم، في معلم ذلك الجيل الذي نال قسطاً وافراً من التأهيل والتدريب، وملماً بأهداف التربية، ومنهج علم النفس التربوي، فهل تتوفر هذه الثقة اليوم؟! اشك في ذلك.. لعدم توفر ما ذكرت في معلم اليوم، ولظروف اخرى اقتصادية ومعيشية تدفع بالمعلم لبث غبنه في تلاميذه.. والعقاب البدني قياسي ربما يرتضيه معلم لغلظة في قلبه وتوحش في سلوكه، ويبغضه آخر سالكاً مسلكاً عقابياً تربوياً مغايراً يحوذ فيه على صداقة وود صغاره. وكنا في العهد الذهبي للتعليم، يوم كان المعلم معلما بمعنى الكلمة لا يبث سموم غضبه من أجل الحقد، وعندما يرتكب التلميذ جرما ما، أو أخل بنظم ولوائح المدرسة، نبدأ بالعقاب التدريجي بالعتاب والنصح والارشاد، ثم التوبيخ ونسخر كل بدائل ووسائل العقوبة البدنية.. وعندما نعجز نلجأ للعقاب البدني مضطرين وحتى لا يفقد المعلم مكانته السامية وسط تلاميذه، كان تلميذنا يتقبل ذلك العقاب طائعاً مختاراً، ومقتنعاً وكذلك حال ولي الأمر... ويومها لم تتزعزع الثقة الوطيدة بين المعلم وتلميذه، قال تعالى: «وجادلهم بالتي هي أحسن».. صدق الله العظيم .. وكان العقاب التوبيخي او البدني لا يتم في حالة الغضب الجامح الذي ربما ينتاب معلمنا.. ولا نشترط تنفيذ العقاب بالسوط وخرطوش الماء مثل ما نرى اليوم. فهناك ضروب شتى نسميها العقاب البدني مثلا: تكليف الطالب بالوقوف لساعات او الحبس الانفرادي بالفصل بعد الدوام، او نطلب منه الكتابة لدرس مطول ربما كان قد اخفق في استيعابه... فهذه كلها بدائل للعقاب البدني الجارح المؤذي... ودون أن يحدث أذى أو ضرراً كبيراً بأعضاء الجسم كما نرى اليوم! فالعقوبة التي كنا نفرضها للتوبيخ أولاً والاعتدال والاستقامة في السلوك رغم أنها تحمل في جوفها الإهانة (insult) وليس الغرض الاذى الذي كثيراً ما يتسبب في نفور التلاميذ من المدرسة. ويرى بعض علماء النفس التربوي أن الضرب نوع من العقاب، ربما يحطم شخصية الطفل ويضعفها.. ويورثه عقدا نفسية تبقى معه أمد الدهر، وهكذا يعزف عن (القراية أم دق) ولكن علماء آخرين يرون غير ذلك.. ويقول الفيلسوف جاك مارتا (Jack Marta) (إن اجمل جو نفسي ينمو فيه الطفل، هو بين قبلات الابوين وصفعاتهم) ولم يقل صفعات المعلمين. ونحن نستقبل خلال هذا الشهر المؤتمر العام للتعليم العام، أرى أن يجد موضوع العقاب البدني حيزاً من التفاكر والنقاش.. فهذه قضية تربوية مهمة وودت التعرض لها حتى يصدر المؤتمر المرتقب قراراً تربوياً وعلمياً وإنسانياً بشأنها. والله الموفق. * خبير تربوي