ست وخمسون عاما انصرمت حسوما من بين أيدي المواطن السوداني منذ تنسمه عبق الحرية وفك قيده من رقبة وقبضة المستعمر البغيض الذي تم جلاؤه في الفاتح من يناير 1956 غير مأسوف عليه حيث تنسمت جموع الشعب السوداني عبق الحرية ،بيد أن المستعمر على سوأته التي لا تعد ومخازيه التي لا تحصى ترك بعض البصمات النيرة التي تحسب له لا سيما على الصعيد الاقتصادي حيث ورث الشعب السوداني جملة من المشاريع الجيدة التي لو تمت المحافظة عليها لكان لها شأن عظيم في مسيرة الحياة بالبلاد التي ظلت تترنح القهقري يوما إثر آخر .. وعلى رأس تلك المشاريع العملاقة مشروع الجزيرة العظيم الذي كان إلى عهد قريب يمثل العمود الفقري للاقتصاد السوداني بجانب خطوط السكة حديد التي تنضح امتدادا وتفوح نظاما ودقة بالإضافة لنظام الخدمة المدنية الذي كان مضربا للمثل وقدوة للآخرين بيد أن مياهاً كثيرة مرت تحت جسر السودان منذ استقلاله حتى يوم الناس هذا فظلت مسيرة الاقتصاد تترنح وتتأرجح علوا وهبوطا مع مد وجزر الأحداث فظلت سفينته تترنح بين الإخفاق والهبوط حتى صار من الصعوبة بمكان الحكم على الاقتصاد إلى وجهة يسير بإطلاق حتى صار علماء الاقتصاد في حيرة من أمره. ففي الوقت الذي تراجعت فيه مسيرة بعض المشاريع نهضت أخرى غير أننا في هذه المساحة نود تسليط الضوء على أهم ملامح الاقتصاد السوداني ما له وما عليه وآفاق المستقبل الذي ينتظره الجميع على أحر من الجمر .فعلى صعيد القطاع الزراعي يقول خبراء الاقتصاد إن السودان بلد زراعي ما في ذلك أدنى شك لما يتمتع به من أراضٍ، فالسودان يحمل بين جنباته موارد جمة أهلته ليكون سلة لغذاء العالم الذي تتزاحم وتتنافس كثير من الدول عليه غير أن الشاهد يقول بحسب الخبراء أن السودان بالرغم من تعدد موارده الزراعية واتساع رقعة أراضيه الصالحة للزراعة وتوفر مياه الري وتعدد مناخاته وكبر حجم الثروة الحيوانية التي يتملكها إلا أن مردودها ما زال ضعيفا منذ الاستقلال إلى يومنا هذا لجملة أسباب من بينها ضعف التخطيط الاستراتيجي وقصر النظر للزراعة بشقيها النباتي والحيواني بجانب التخلف التقني في إدارة النشاط الزراعي الذي ساعدت في البعد عنه واقتنائه النظرة التقليدية الضيقة للزراعة والتي حصرتها في منظور الاكتفاء الذاتي بجانب الضعف الإداري للعمليات الزراعية وقلة المتابعة بجانب ضعف الإرشاد الزراعي لأجل هذا ظل البروفيسور عصام بوب ينادي على الدوام بضرورة هيكلة الاقتصاد السوداني جملة وتفصيلا في كل مناحيه لاسيما على صعيد الإدارة الزراعية التي تحتاج إلى توجيه كل الأنظار إليها إن أرادت الحكومة بحق الخروج من نفق الأزمة التي تعيش فيها البلاد ودعا إلى توجيه الغالبية العظمى من الموارد لإعادة ماء الحياة للمشاريع الزراعية الرائدة التي في مقدمتها مشروع الجزيرة العملاق الذي ظل عمودا فقريا للاقتصاد السوداني لسنين عددا وكان بالإمكان المحافظة على ريادته في السلك الاقتصادي لولا سوء الإدارات وتضارب السياسات الذي ظل يعاني من ويلاتها حتى كاد أن يكون أثرا بعد عين. وأبان بوب أن الفرصة ما زالت سانحة لتلافي مشاكل الزراعة فى السودان فى مقدمتها المشاريع الكبيرة وعاب على الحكومة الحالية تكالبها على جني وحصاد أموال عائدات النفط سهلة القياد وتناسيها في غمرة فرحها بها أن النفط مورد ناضب بجانب أن أسعاره عرضة للانخفاض كما حادث إبان الأزمة المالية العالمية التي ما زالت آثارها ما ثلة للعيان ويكتوي بنيرانها كل البلدان. وغير بعيد عن إفادات بوب يوافقه الرأي الدكتور محمد الناير بأن على الحكومة التي أفردت للزراعة برنامجا وصفه بالطموح ممثلا في النهضة الزراعية ووفرت لها من السند والدعم السياسي ما لم يتوفر لغيرها بيد أنها لأسباب كثيرة لم تؤت أكلها ولم تحقق الأهداف المنشودة منها وزاد أن الاقتصاد السوداني تقدماً في مناحي كثيرة وتأخر في أخرى وأشار إلى أنه تقدم من حيث الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة متسارعة أسهم فيها النفط بصورة كبيرة ووفقا لآخر موازنة يفوق ال200 مليار جنيه وأن الفرق بينها علاوة على أن حجم الموازنة تضاعف عشرات المرات حيث بلغت 30.5 مليار جنيه وزاد أن الإنتاج الزراعي تراجع لصالح الخدمات الزراعية والصناعية لاسيما على صعيد الصناعات التحويلية بجانب دخول السودان ضمن منظمة الدول المصدرة للنفط التي خرج جزء كبير منها بعد الانفصال الذي سيعود بنها ية العام 2012 وزاد أن النفط أحدث طفرة في الاقتصاد السوداني وعلى صعيد سعر صرف الجنيه أوضح الناير أن سعره في سبعينيات وستينيات القرن المنصرم يساوي 3 دولارات ،وكانت تسنده صادرات السودان من القطن والصمغ العربي والحبوب الزيتية غير أن المنقصات زادت من وتيرة تراجع النشاط الزراعي والصادرات غير النفطية بصورة كبيرة وأضاف الناير أن تعداد السكان تضاعف عشرات المرات منذ الاستقلال وأن الخدمات من صحة وتعليم كانت مجانية غير أنها صارت تقع على كاهل المواطن ولا يخفف من وطأتها سوى اشتراكه في مظلات التأمين الصحي وعرج الناير على سياسة التحرير الاقتصادي التي من محاسنها أنها استطاعت إخراج السودان من اقتصاد الندرة إلى اقتصاد الوفرة بالرغم من تأثرها السالب على الطبقة الوسطى بالمجتمع التي اضمحلت في الفترة الأخيرة بيد أنها عاودت الظهور مؤخرا وعن معدل التضخم يقول الناير إنه ظل يتأرجح علوا وهبوطا حتى وصل مداه في منتصف تسعينيات القرن المنصرم حتى وصل إلى 160% لكنه عاد ليكون رقما آحاديا وارتفع مؤخرا ليكون عند رقمين في آخر موازنة وواصل الناير سرده لمسيرة الاقتصاد السوداني وأبان أنه على صعيد البنى التحتية من الصعوبة بمكان مقارنة ما بدأت به الدولة السودانية من بنى تحتية ضعيفة وإلى ما وصلت إليه الآن في شتى المجالات غير أنه تراجعت في مجال النقل النهري والبحري والسكة حديد ولم يتطور إلا النقل البري فيما زاد إنتاج السودان من الكهرباء الذي كان أقل من 500ميغاواط فيما يتراوح الآن في حدود (5-7) ألف ميغاواط وعن الخدمة المدنية يقول الناير إن الدولة السودانية ورثت نظام خدمة مدنية منضبط من الإنجليز بيد أن سمت الدولة حين ذاك قلة العدد غير أن تمدد الخدمة وأذرعها مؤخرا له سلبياته وإيجابياته فيصبح من الصعوبة بمكان الحكم عليها بإطلاق بالرغم من التدهور الذي يتبدى في جسد الخدمة المدنية وعن الثروة الحيوانية يقول الناير إنها نمت نموا تقليديا بعيدا عن سبل الحداثة والبحث العلمي ولم تستفد من فيض الاستثمارات التي تدفقت على السودان لاسيما في مطلع الألفية فقطاع النفط و ما لا يقل عن 15 مليار دولار كما لا يقل نصيب الاتصالات والفنادق والخدمات عن 30 مليار دولار فصار بالسودان قدر كبير من البنى التحتية في مجال تقنية النفط والمعادن والفنادق والاتصالات غير أن الاستثمار لم ينجح في تحقيق المرجو منه في مجال الزراعة والصناعة.وغير بعيد إفادات الناير يقول المحاضر بجامعة الأحفاد الدكتور السماني هنون إن الاقتصاد السوداني يمتلك من المقومات والموارد التي تؤهله للتربع على مكانة سامية تحقق لإنسانه الرفاهية المنشودة بيد أن سوء الإدارة وضعف التخطيط وقصر النظر الاستراتيجي وقلة الوازع الوطني وتفشي المحسوبية والأدواء الذاتية من اختلاسات وممارسات خاطئة على مر الحقب الحاكمة التي سمتها الدكتاتورية حالت دون بلوغ المقصود وظل الاقتصاد السوداني يتقدم خطوة وتراجع خطوتين في وقت يسير العالم من حولنا على ضعف موارده وختم بأنه من الصعوبة بمكان الحكم على الاقتصاد السوداني من الاستقلال إلى يوم الناس هذا بحكم موضوعي عادل قوامه الإطلاق أنه سيء أو جيد ، متقدم أو متأخر بيد أنه الحقيقة الماثلة التي لا تقلب القسمة على اثنين أن اقتصاد البلاد محتاج إلى نفرة ونهضة عاجلة وإعادة نظر وهيكلة حتى تعود الأمور إلى نصابها وختم بأن الاستقلال الحقيقي يكمن في الاستغلال الأمثل لما تمور به البلاد من موارد. ويتفق معظم الاقتصاديين ان الست والخمسين عاما التى مضت على عمر السودان كانت كفيله بجعله من كبريات الدول الزراعية والصناعية التى يشار اليها بالبنان ، ولكن غرور السودانيين وتحزبهم التقليدى والاعمى يجعل الغالبية العظمى لاترى المصلحة العليا «الوطنية» بل تظل تنظر الى قدميها فقط ولذا فقد «فات القطار» علينا لعدة اسباب اولها انغلاق الدولة وانكفائها على نفسها دون استغلال مواردها بطريقة مثلى اضافة الى المكايدات السياسية التى طغت على كل الاشياء الاخرى متناسين بان السودان ظل يحيط به تسع دول كلها دول متخلفة تعتمد على الهبات والمنح ليس فيها انتاج حقيقى ظلت تصدر التخلف الى السودان بمساحاته الشاسعة فى ظل عدم وجود رقابة حقيقية على الحدود السودانية مع اتساع الرقعة وتداخل القبائل مع جيرانه مما افرز وضعا سيئا بدليل ان الجفاف الذى اصاب المنطقة فى العام 1983م كان مؤشرا حقيقيا لعدم الاستقرار الاقتصادى وتدهور البلاد منذ تلك اللحظة باعتمادها على الاغاثة الدولية التى سميت بإغاثة ريغان فى ذلك الوقت فى اشارة الى الرئيس الاميركى . ويرى المحللون انه ومنذ تلك الفترة بدأت الهجرة والنزوح من الارياف الى المدن وبدأت كافة المساحات الزراعية فى تناقص وكذلك الثروة الحيوانية فى وقت لاتوجد فيه استراتيجية اقتصادية ورؤية واضحة المعالم تستند اليها المجموعات الزراعية والرعوية واستمر الوضع بتلك الشاكلة متأثرا بالاوضاع السياسية دون النظر الى الوضع الاقتصادى فازدادت معاناة الريف وانتقلت الى الحضر واهتمت الدولة بالتسكين دون تقديم حلول منطقية . وكل تلك التداعيات اظهرت نوعا من السخط الداخلى لقلة من الخبراء والاقتصاديين الذين فكروا فى الهرب من الاوضاع المتدهورة خاصة وان هنالك اتجاهات كثيرة بدأت تصنف الانتماءات ادت لهروب الكثيرين منهم الى دول الخليج التى بدأت فى استقطاب الكفاءات من الدول المختلفة وبدأت حملات التجنيس والاقامات تترى على الكفاءات السودانية كل ذلك دون اهتمام على مستوى رئاسة الجمهورية او الدولة ككل ، واستمر الوضع هكذا ما بين المد والجذب فى وقت يتقدم فيه العالم بأبناء السودان من خلال البحوث والتجارب العلمية والاقتصادية والتكنولوجيا الحديثة التى استطاعت ان تؤثر على الانتاج والانتاجية وعلى الصناعة ومدخلاتها وظهرت معايير جديدة لم تكن في مألوفة في العالم مثل البذور والتقانات الحديثة والميكنة الزراعية وعلى الصعيد الصناعى ظهرت ظهرت المصانع الحديثة وصناعات غذائية بسيطة باقل تلكفة والسودان لايزال يرفل فى نعيم التغيرات السياسية غير مدرك بان هنالك تغيرا سيحدث فى العالم اعتمادا على الاقتصاد الذى يعمل على تحريك الامم بدلا من السياسة التى يجب ان تكون احدى دعاماتها الاقتصاد. وبعد ان تربعت على الدولة السودانية فى التسعينيات حكومة الانقاذ الوطنى حاولت جاهدة الخروج من نفق الازمة الاقتصادية واعتمدت على الاقتصاد بصورة كبيرة واعطته حيزا كبيرا فى سياساتها ووضعت خططا خمسية وعشرية للححاق بركب العالم الا ان التوجه الآيديولوجى ارهقها كثيرا وخصم من رصيدها كبيرا الامر الذى عزلها من العالم تماما واغلقت عليها كل الابواب وتمت محاصرتها اقتصاديا من كل الجوانب، الامر الذى اثر على كل ماتبقى من بنيات اساسية تحتية وبعض الصناعات وحتى المتحركات مثل القطرات والطائرات شملتها هذا الاجراءات مما ادى الى تراجع التنمية الى الوراء، وبالرغم من الجهود المبذولة على كافة المستويات الا ان الاهداف غير محددة المعالم فعلى سبيل الزراعة تمددت الحكومة فى كافة الاتجاهات مثلا وضعت خطة استراتيجية ودعمت القطاع بمحدودية وانتقلت من نفرة الى نهضة دون وضوح الرؤية كما اعتمدت على الثروة الحيوانية واحصائية العام 1975م متناسية ان المتغيرات العالمية ادخلت تقنيات جديدة قلبت الموازين رأسا على عقب فى وقت ترزح فيه التقليدية فى تربية المواشى السودانية مع عدم وجود اجراءات مكافحة متقدمة الامر الذى جعلها فى مؤخرة الدول غير المرغوبة عالميا لتفشى العديد من الامراض .وفى مجال الصناعات ونتيجة لجبائية الدولة واعتمادها على الرسوم والضرائب والاخرى فقد فقدت رصيدا ذاخرا فى المجال الصناعى خاصة صناعة النسيج والصناعات الغذائية فقد هجرت الدولة السودانية عدداً من المصانع الى دول اخرى استقبلت هذه الصناعات بكل ترحاب كما ان السودان فقد ميزته النسبية فى اكبر صادراته مثل القطن والصمغ العربى فقد يعتبر من اكبر المنتجين للصمغ ولكن دولاً اخرى من اكبر المصدرين له فى وقت انتهت فيه ريادته فى القطن بفعل فاعل كما اندثرت ميزته فى الكركدى بفعل الطمع والجشع السودانى فى الثراء . كل ذلك جعل المواطن يتجه نحو الاعتماد على الوارد اكثر منه على المنتج المحلى على قلته ولكن لان المحلى اقل جودة بالمقياس الدولى فى ظل ان المنتج المحلى يتناسى ان التقدم العلمى والتكنولوجى ذاع صيته واضحى فى متناول ايدى الجميع يعرف كيف يقيس به الاشياء فى وقت ظهر فيه النفط وارتفعت معيشة المواطن الذى لايقبل الا بالتميز فكانت هذه فرصة للدولة السودانية وحكومتها ان تتطور فى قطاعاتها المختلفة وتلحق بركب الآخرين فى المجال الصناعى والزراعى وتوظيف تلك الاموال الى حيث يريد المواطن الا انها اغفلت تلك الجوانب واعتمدت على اشياء وصفها العديد بانها غير ذات اولوية ولذا فان انفصال الجنوب اوقع الفاس فى الرأس مرة اخرى وظلت الدولة السودانية «ذات شقين» شمالى وجنوبى كل منها يحتاج الى الآخر ولكن يبقى الامل معقوداً بان تتبادل هذه الامكانيات المفقودة فى الدولتين وتنتج مولودا جديدا بعد استيعاب الدرس القاسى الذى مر به الاقتصاد السودانى منذ عام الاستقلال والى يومنا هذا .