قبل الاستقلال ببضعة شهور تم إيفاد الملازم جعفر محمد نميرى فى بعثة عسكرية الى مصر مع بعض زملائه من الضباط، كيما يشكلوا النواة الاولى لسلاح الطيران السودانى. واستقر بهم المقام فى قاعدة بلبيس الجوية بالقرب من القاهرة، وأُوكل أمر تدريبهم الى النقيب طيار محمد حسني مبارك بوصفه كبير معلمى الطيران. وأخفق الملازم نميرى فى التأهل ليصبح طياراً حربياً، وعاد الى السودان لينتظم فى القوات المسلحة ضابط مشاة، وأوضح فيما بعد للصحافى فؤاد مطر أن سبب استبعاده لا يعود لعدم الكفاءة، بل بسبب موقفه الوطنى المؤيد للاستقلال بدلاً من الوحدة مع مصر، وايضاً وعلى حد قوله بسبب تعنت اللواء مدكور أبو العز قائد الكلية الجوية المصرية ومعه النقيب حسني مبارك كبير المعلمين الجويين، إلا أن حسني مبارك كان له رأي آخر صرح به لبعض خاصته مفاده أن الملازم نميري كان يفتقر الى القراءة البارعة لحسابات الطيران المعقدة، مما لا يؤهله ليصبح طياراً. وتوالت الايام وانطوت السنوات، وإذا بالتلميذ والمعلم يصبحان رئيسين في الخرطوموالقاهرة، واقتلعت الاول هبة جماهيرية عارمة لم يُحسن معها حسابات الإقلاع والهبوط فى أجواء السياسة العاصفة ، تماماً كما تنبأ معلمه في الكلية الجوية. غير أن الاقدار تواصل نسج الأيام وإذا بالمعلم والطيار الحاذق الذي يفزعه أن ينتهى به الحال الى ما انتهى له تلميذه السابق، وأن يصبح فى زمرة الرؤساء المخلوعين... إذا به لا يفقد قدرته على الحسابات السياسية فحسب، بل يفقد حتى البوصلة التى لا يمكن لأي طيار حاذق أن يقلع أو يهبط بدونها! ومن مفارقات القدر أنه وفى اللحظة التى كان فيها الرئيس مبارك يتشبث ويتوسل بسجله العسكري وأمجاده في نصر اكتوبر للبقاء فى المنصب، كان الفريق سعد الدين الشاذلي أحد ابطال العبور ورئيس أركان الجيش المصري في تلك الحرب يلفظ أنفاسه الاخيرة ويغادر العالم فى صمت، وكأن مبارك يريد لتلك البطولات أن تمنحه حصانةً سرمدية وصكاً دائماً بالوطنية لا تنال منه الاخفاقات التى تسبب بها، وكأنه لم يسمع بالجنرال الفرنسى بيتان الذي كان بطلاً قومياً فى فرنسا فى الحرب العالمية الاولى، وعندما وقّّع وثيقة الاستسلام لألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية وأصبح رئيساً لحكومة الاحتلال العميلة للنازي، ازدراه الشعب الفرنسى وجرده من كل البطولات.. وكأنه لم يسمع بشرشل رئيس الوزراء البريطاني الذى قاد بريطانيا الى النصر فى الحرب العالمية الثانية، ولما فرغت الحرب أسقطه الشعب، فامتثل للامر ومضى الى بيته عزيزاً مكرماً.. وكأنه لم يسمع بديجول الزعيم الفرنسي الذى أسقطته ثورة الشباب العارمة التى ملأت طرقات المدن الفرنسية أواخر الستينيات، فانصاع لرأى الشارع، وآثر أن ينسحب من الحكم ليعيش بقية سنواته فى قريته الريفية التى مات ودُفن فيها. لقد ظل الرئيس مبارك طوال أيام الثورة المصرية يفتقر الى التوقيت كأنه ما كان طياراً حاذقاً ذات يوم، فتوقيته يأتى دوماً متأخراً.. فهو يتلكأ ويتغافل عن الخيارات المنطقية المتاحة فى لحظة معينة ليعود لها فى اليوم التالى بعد أن تتجاوزها الاحداث ويعلو فوقها سقف المطلوبات.. أرادوه قبل بداية الثورة أن يتعهد بعدم الترشح وعدم توريث ابنه، وأن يختار نائباً للرئيس، فاتهمهم بأنهم عملاء ومضى يزور الانتخابات.. أرادوه عقب اندلاع الثورة أن يرحل فأعلن عدم ترشيح ابنه واختار نائباً للرئيس.. وأرادوا أن ينقل اختصاصاته للنائب الذى اختاره فراح يعلن أن تلك هى آخر فتراته السياسية.. فطفح بهم الكيل وعلا سقف مطالبهم وارادوه أن يرحل ليس هو فحسب بل هو ونائبه، ففوض السلطات الى نائبه. وهكذا ظل الرجل يفتقر الى التوقيت ويستدين من خيارات الامس التى كانت متاحة ليواجه بها مطلوبات اليوم، ناسياً أن قواعد اللعبة تجعل تلك المطلوبات في حالة سيولة وتنامٍ وفقاً لموازين القوة المكتسبة. لقد أراد النميرى أن يصبح طياراً ففشل، ونجح مبارك في أن يصبح طياراً... إلا أن حسابات السياسة تظل أعقد من حسابات الطيران.