لقد ظللنا نتابع في قناة الجزيرة الفضائية البرنامج الذي يقدمه الصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، لما يتسم به من سلاسة في الطرح، وغزارة في المعلومات، وقد أثارت حلقاته ردود فعل متباينة، وبعضها غاضب لا سيما من المناوئين لناصر والناصرية.. ولا ريب أن هيكل نجم ورمز ضخم ولا غرو، فقد قضى نحو سبعين عاماً في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة، وكان في قمة نجوميته وتألقة وتأثيره البالغ على الرأي العام المصري والعربي، عندما كان رئيساً لتحرير الإهرام، وكان القراء ينتظرون بصبر نافد مقاله الاسبوعي الشهير (بصراحة) الذي كانت تذيعه إذاعة صوت العرب بعد نشره في الإهرام، وعندما عينه الرئيس عبد الناصر وزيراً للإعلام، لم يترك موقعه في الإهرام، بل اعتبر عمله للوزارة عملاً إضافياً، وعند تركه للإهرام على مضض في عهد السادات تفرغ للكتابة، ورفد المكتبة بأعظم الكتب وأهم المراجع وهو كاتب مجيد للغتين العربية والإنجليزية، وقد كتب كتابه عبد الناصر والعالم باللغة الانجليزية، وترجمته دار النهار البيروتية للغة العربية، مثل المحجوب الذي أعد كتابه (الديمقراطية في الميزان) باللغة الانجليزية، وترجمته أيضاً دار النهار البيروتية للغة العربية.وقد جرح الأستاذ هيكل مشاعر السودانيين عدة مرات، وأثناء المد الجماهيري والمظاهرات الهادرة إبان ثورة اكتوبر عام 1964م، نشر مقاله الشهير (ثم ماذا بعد في السودان)؟! مما أثار غضب المتظاهرين الذين اتجهوا للسفارة المصرية ثائرين وهاتفين هتافات غاضبة، واحرقوا العلم المصري وهدأ عبد الناصر الموقف باعتذار لطيف.. وبعد انطواء عهد الحكم العسكري، سخر هيكل من وزير الاستعلامات والعمل، وذكر أنه سأله عن الانقلاب والثورة، وهل ثمة رابط بينهما؟ فأجابه الوزير -على حد زعمه- إجابة ساذجة واستهزأ بها هكيل، وبعد اغتيال السادات نشر هيكل كتابه (خريف الغضب) وسخر من الرئيس الراحل ذاكراً أن اسم أمه (أم البرين) وأصولها سودانية، وأورد هذه المعلومة بطريقة فيها استفزاز للشعب السوداني واستخفاف به، رغم أن السادات كان يفخر بعلاقة الرحم والدم التي تربطه بالسودانيين، وكذلك كان الرئيس الراحل محمد نجيب يفخر بهذه العلاقة، وقد درس سيادته مراحله الأولى بمدينة ودمدني، حيث كان يعمل والده منتدباً من مصر.وأكد هيكل في حلقته الأخيرة تجاهله للسودان، وعدم الاهتمام بالإلمام بأبسط المعلومات عنه، والدليل على ذلك عدم تفريقه بين كسلا والكرمك، وذكر أن الإمام الهادي أغتيل ومات مسموماً بتقديم قاتليه له قطعة مانجو مسمومة بمدينة كسلا، وهذه شطحة كبيرة، وأكذوبة تدعو للبكاء والرثاء، والمعروف أن الإمام الهادي أصيب بطلق ناري في فخذه، والبوليس الذي أطلق الرصاص اسمه (ع. ك.)، وقد التقيت به بمدينة ودمدني قبل سنوات أثناء توثيقي لأحداث الجزيرة أبا ودونوباوي، ولا أريد في هذه العجالة الخوض في التفاصيل.. أما القول بإن هناك أكثر من خمسين الف من الموالين للإمام الهادي كانوا سينقضون على الخرطوم، فهو قول هراء وسباحة في الخيال، ورحلة النميري موثقة بكل تفاصيلها الدقيقة، وقد بات هو ومن معه ليلتهم الأولى آمنين بالباخرة، التي كانت تقلهم من الخرطوم للنيل الأبيض، وكان من السهولة القضاء عليهم لو تصدت لهم مجموعات انتحارية، ولكن ذلك لم يحدث، ويعني هذا بالضرورة أن الخمسين ألف الذين أشار اليهم الأستاذ هيكل، هو زعم متوهم، ولم تكن الخرطوم في خطر، ولو تريث الطرفان لمضت الأمور بسلام، ولكن هناك قلة من المتهورين بين الطرفين أدى حماسهم الزائد وتهورهم وحساباتهم الخاطئة، وعدم تريثهم لانطلاق شرارة الفتنة، التي اشعلت النار.وقد بعث عبد الناصر من قيادة سلاح الطيران وقتئذ الضابط العظيم حسني مبارك على رأس مجموعة من الضباط والخبراء العسكريين، وقد التقيت في عام 1998م بضابط كبير متقاعد كان يعمل في عام 1970م مديراً لمكتب النميري القائد العام للقوات المسلحة، وأكد لي هذا الضابط وعدد من العسكريين الآخرين الذين التقيت بهم، أن حسني مبارك لم يعتلِ أية طائرة من الطائرات التي حلقت حول الجزيرة أبا، ولم يضرب وهو بريء براءة الذئب من دم يعقوب من كل ما حدث، وقد قام بقيادة الطائرات ثلاثة من الطيارين الحربيين السودانيينن وقد أرسل الرئيس القذافي نائبه عبد السلام جلود، وأرسل الرئيس عبد الناصر في تلك الأيام نائبه السادات، الذي التقى لأول مرة في حياته بالضابط طيار آنذاك حسني مبارك، وتعارفا واستطلفا بعضهما، ونمت بينهما صداقة، وبلغ إعجاب السادات بحسني مبارك ذروته في حرب اكتوبر رمضان عام 1973م.وذكر هيكل بأنه نصح عبد الناصر بضرورة عدم اشتراك المصريين أو السوفيت في الضرب، لأن هذا سيثير أمريكا، وربما يكون عبد الناصر قد تصرف على هذا النحو من تلقاء نفسه، ولكن ومن قبيل تمجيد الذات نسب هيكل ذلك لنفسه ولا يوجد شهود أحياء لتأكيد أو نفي هذه المسألة، وبمثل هذه الإشارات يحاول هيكل بعد كل هذه السنوات الطويلة التي اكتسب فيها تجارب تراكمية، أن يخرج من معطف عبد الناصر، وفي نفس الوقت يريد أن يكون وفياً له عندما تقتضي الضرورة، الدفاع عنه صداً لسهام الآخرين، وطريقة هيكل تماثل الطريقة التي أراد بها الأستاذ أنيس منصور بأسلوبه السهل الممتع أن يخرج من معطف أستاذه العقاد، باشاراته وإيماءاته في كتابه الشهير (في صالون العقاد كانت لنا أيام)، وذكر أنه درس الفلسفة ودرسها، ويجيد عدة لغات، وكان أستاذه العقاد يستفسره عن بعض الأشياء أو يطلب منه ترجمتها.. إن الأستاذ محمد حسنين هيكل ظل يتحامل على السودان، وكذلك كان هيكل الآخر الدكتور محمد حسين هكيل باشا) وهو صحفي وكاتب وسياسي ووزير سابق قبل ثورة يوليو، و وهو من رواد كتاب القصة، واشتهر بكتابة قصة زينب.. وقد زار السودان وعند عودته نشر كتاباً بعنوان ( عشرة أيام في السودان)، ووصفه بأنه بلد أفريقي متخلف، تتجول الحيوانات المتوحشة في شوارع عاصمته الخرطوم في وضح النهار، ولعل سيادته سمع زئير الأسد عندما كان يقيم بالفندق الكبير، وأرعبه وأغضبه ذلك، ولو استطلع جلية الأمر لعلم أن جنينة الحيوانات وهي مكان للترفيه، كانت على مقربة من الفندق، ولكن الغرض مرض، وربما غضب الدكتور الباشا هذه الغضبة المضرية لأنه أصيب بخيبة أمل لأن السودانيين لم يخرجوا في الشوارع لتحية معاليه، ولم يحس أحد بوجوده وكان يظن لنرجستيته أنه سيكون نجم النجوم وشغل الناس الشاغل!! أما الكاتب المصري أحمد حمروش، فقد اعترف بأنهم لم يكونوا يعرفون عن السودان شيئاً يذكر، وارتبط السودانيون في أذهانهم بالبوابين، ولكن الانفتاح السوداني المصري الشعبي قد بدأ منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، وبلغ أوجه بعد إعلان التكامل بين السودان ومصر، وقبل ذلك كان من الطرائف أن الرحالة الراحل محمد عبد السلام زار مصر ومرة واحدة، وظل طوال عقد الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي يتجول بين قرى ومدن السودان المختلفة، وهو يلقي في محاضرة واحدة سمعناها منه، ونحن في الصف الأول بالمدرسة الوسطى سمعناها منه ونحن في نهاية المرحلة الثانوية، ولكن منذ منتصف السبعينات لم يعد الناس بحاجة لمحاضرة محمد عبد السلام اليتيمة، التي كانت تشد الانتباه وتدل على شح التواصل بين الشعبين، والعلاقات السودانية المصرية قديمة، وهناك تواصل تجاري وثقافي ممتد، وظل الأستاذ العقاد يذكر السودان بالخير وقد لجأ اليه في صدر الاربعينات هروباً من النازي، وأحسن السودانيون استقباله واكرموه وأنزلوه المكانة الرفيعة اللائقة به، وبكى عندما أنشد الأستاذ محمود الفضلي في حضرته قصيدته: (أبعداً نرجى أم نرجى تلاقيا... الخ) وعندما احتاج العقاد لمراجع ليكمل كتابه (عبقرية عمر) وجدها بسهولة ويسر عند مولانا السيد علي الميرغني، وعند عدد آخر من صفوة المثقفين.. ويحفظ السودانيون للدكتور عبد المجيد عابدين، والدكتور عز الدين إسماعيل وأضرابهما كتاباتهم المتمزة عن الثقافة السودانية.وقد سئل اللواء- م- خالد حسن عباس عن المعلومات المغلوطة التي أدلى بها الأستاذ هيكل، فادلى هو الآخر بتعقيب فيه أخطاء، والمؤسف أن كثيراً من المسؤولين والدستوريين لا يهتمون بكتابة يومياتهم ومذكراتهم، ويعتمدون على الذاكرة التي قد تخون صاحبها أحياناً، وأرجو أن أبعث لسيادته كتاباً بعنوان: (أحداث الجزيرة أبا وودونوباوي) نشر في عام 1998م، وتآمرت عليه بعض الأطراف، واحتكرته وحصرته ومنعت توزيعه.