إلى متى تستمر حالات التيه في السودان ودولة جنوب السودان؟ فمنذ أن انفصل جنوب السودان في التاسع من يوليو من العام الماضي، والدولتان تعيشان في حالات تيه وضياع لا يبلغ مداها التعبير الرصين أو الوصف الدقيق. وعوضاً عن أن يقود الانفصال الدولتين إلى علاقات مميزة من حسن الجوار وتأسيس علاقات تشاركية في التبادل التجاري، والجوار السياسي المرشد، وبناء علاقات اجتماعية تستند إلى الإرث الحضاري والثقافي المتين، فإن استراتيجية التربص والنكايات والتوتر أصبحت سيدة الموقف بلا منازع. فبعد مضي أسابيع قلائل على انفصال الجنوب، سعت الدولة الوليدة إلى مشاكسات وزرع الأسافين مع جارتها الأم، فقد أدت تلك الاستراتيجية الخبيثة إلى دعم الحركة الشعبية للتمرد في جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، ودعم حركة العدل والمساواة وغيرها من الحركات الدارفورية المتمردة والمسلحة. وليس غريباً أن تؤدي مكائد الجنوب إلى عدم الاستقرار في جمهورية السودان مما أدى إلى إزهاق الأرواح، وتبديد الموارد على قلتها نتيجة فقدان الشمال لحصته من بترول الجنوب.. الجنوب الذي يصارع الموج العتي والعواصف، لم يستطع أن يوظف عائدات النفط للتنمية وتطور البلاد، كما لم يستطع أن يحول دون النزاعات القبلية التي مزقت نياط منطقة جونقلي.. فقد راح ضحية تلك النزاعات بين قبيلتي النوير والباريا ما يناهز الثلاثة آلاف قتيل في الأسبوع الماضي فقط، ولا توجد - حتى الآن - بوادر أو مؤشرات لإخماد جذوة النزاع الإثني الشرس والمدمر. أما في الشمال، فالأوضاع لا تقل سوءاً، فقد أدى فقدان البلاد لموارد البترول، إلى تفشي أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة لا يرتجى إيجاد حلول عاجلة وسريعة لها في المستقبل المنظور. والشمال الذي تلكأ وتماطل في تكوين حكومة ذات قاعدة عريضة، خرج في نهاية المطاف بتكوين حكومة استعراض عضلات ليس إلا.. والمعارضة السودانية تعاني أيضاً من حالات اختراق وإحباط غير مسبوقين: فحزب الأمة بعضه في الحكومة، ورئيسه يحمل رايات المعارضة المدنية المرنة، والحزب الاتحادي الأصل بعضه في الحكومة معززاً برئيسه ونجله، والمريدين الخلص، والبعض الآخر انشق وانهد مثلما ينهد صرح من رمال عاليات. وعن عراب حكومة الإنقاذ الدكتور حسن الترابي فلا يزال السجال والاتهامات تدور حوله وحول سعيه لإسقاط الحكومة ذات القاعدة العريضة ، رغما عن نفيه نيته إسقاط حكومة الرئيس البشير. والمراقبون حيارى في الوفاق التكتيكي بين حزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي اللذين وصفهما حزب المؤتمر الوطني الحزب الحاكم بأنهما قد تجاوزا الخطوط الحمراء.. وتوعدهما بالثبور وعظائم الأمور إذا ما استمرا في نهجهما التخريبي الذي يمس سيادة البلاد. مشهد التيه السياسي في دولتي السودان وجنوب السودان يوحي بخطر مدلهم، وهناك سحب كثيفة تحجب رؤية تل الخلاص، وفي الأفق عواصف دوارة لا تستثني أحداً، والمشاعر الجامحة شمالاً وجنوباً.. فهل أزفت الآزفة؟ أ. د. عبدالرحيم نورالدين