٭ أنهيت مقال الحلقة الأولى بالتساؤل المحتار بين اطلاق الدولة العنان لمنبر السلام وصحيفته الإنتباهة لقيادة دعوة صريحة للانفصال من منطلق عنصري وديني غير راشدين- وهما اخطر نعرتين على وحدة وسلامة أية دولة- رغم اتجاه الدولة إعلاماً وسياسة وشعباً نحو الوحدة! كيف يسمح لتيار انفصالي بهذا التمدد والتأثير رغم حساسية نظام الانقاذ تجاه كل دعوة تمس سياساته المبدئية وثوابتها الوطنية؟! وأعود لاربط تساؤل الختام ببدء المقال ذاك حيث (إدعيت) ان منبر السلام ليس (حزباً) مستقلاً بذاته، فأقول إنه في تقديري يمثل (الجناح الانفصالي) للمؤتمر الوطني! إذ انه ليس كل أهل المؤتمر الوطني على قلب رجل (وحدوي) واحد كما تعلن سياساته وادبياته!! ولكم ان تقرأوا ما فوق السطور وما وراءها فما يكتب بعض قياداته في مقالاتهم الصحفية، ولكن لما كان من غير المنطقي ان يظل الحزب معلناً العمل للإنفصال والوحدة معاً وتتعاطى قياداته التصريح بهذه السياسات المزدوجة، فقد كان الاوفق ان ينعزل الانفصاليون بكيان يشكل جماعة ضغط Loby دون ان يرقى ليكون حزباً معارضاً حتى ولو جرى تسجيله كذلك، ويعطي (كامل الحرية) والإمكانات للدعوة والتبشير بالانفصال حتى يجنب الحزب (الأم) حرج التناقض وصراع التيارين!! وهو قول- أو تحليل إن شئت الدقة- تسنده بعض الوقائع التي لا تخطئها عين المراقب، فقد اشرنا الى ان المنبر لم يسع الى (الانتشار الحزبي) خارج الخرطوم كما ظل عمله كله في دائرة (الاعلام) حيث لا تعرف له برامج أو دراسات أو هياكل او حتى مؤسسات تموّل انشطة الحزب كما هو المعهود في الاحزاب الاخرى إذ انه لا احد يدري- مثلاً- كيف ومن اين يموّل منبر السلام انشطته الإعلامية على قلتها! بالاضافة الى ان الحزب لم يفكر (إبتداءً في دخول معركة الانتخابات حتى ولو على ادنى درجاتها النيابية بالمحليات أو الولايات دعك من المجلس الوطني! بل واكثر من ذلك جعل صحيفته منبراً وعائياً لمرشحي المؤتمر الوطني على المستويين الرئاسي والبرلماني، وليس من باب (التحالف) الذي يكون عادة وفق اتفاق مشروط، وإنما من باب (الولاء) غير المشروط. وبهذا ظل المؤتمر الوطني يلعب على حبلي الإنفصال والوحدة- بذكاء لا يحسد عليه- ولعله كان للإنفصال اكثر قرباً، فقد كنت اجادل أحد قياداته متعجباً من ضعف جهده السياسي في العمل من اجل ما كان يسمى (بالوحدة الجاذبة)- وسط الجنوبيين- منذ أن تم التوقيع على اتفاقية نيفاشا وطوال خمس سنوات كاملة، ثم (فجأة) بدأ نشاطاً محموماً ومكثفاً إعلامياً وسياسياً داعياً الجنوبيين للتصويت للوحدة بل وطارحاً (حوافز) سياسية ومالية اذا انجزت الحركة الشعبية مشروع الوحدة! فتساءلت عن كيف يمكن لحراك خمسة أشهر (وحدوي) ان يهزم حراك خمس سنوات (إنفصالي)؟ فرد علىَّ قائلاً: لقد بذلنا جهداً مع الجنوبيين ولكنا ابقينا اخيراً بأن الانفصال واقع لا محالة فلم نقف في طريق رغبتهم ليقيننا بأنهم يوجدون دولة فاشلة تقنعهم بأنهم لا مستقبل لهم إلا بالوحدة مع الشمال، وعندها سيعودوا الينا بشروطنا نحن!! ولم ألمس في حديثه دلالة أنه رأى فردي ومعزول- كما يقول أهل الانقاذ-!! لذا نشط منبر السلام وخمد منبر الدولة، فكان الإنفصال! وهكذا وضعت الانقاذ السودان في اتجاه معاكس تماماً للمنطق والواقع والدين معاً!! فالعالم (العاقل) كله يسعى للوحدة واقامة الكيانات الكبرى ونحن نبذز بذور الانفصال الشيطانية التي لا نضمن عدم انبات غرسها باجزاء اخرى من الوطن الجريح دون ان نبالي! والتي لا يرضاها ديننا وعقيدتنا الذي كانت التوحيد لحمته والوحدة سداه! وهكذا توالت علينا مصائب ما بعد الإنفصال، ومع كل ذلك لم نعترف- حتى الآن- بأننا قد اخطأنا السياسة والحسابات والجغرافيا وحتى التاريخ! فساستنا وقياداتنا لا يعرفون شجاعة الاعتراف بالخطأ! وكأن كل معاركنا التي خضناها طوال خمسين عاماً من أجل الوحدة كانت حروباً عبثية وان التراب كان لا يساوي ارواح الآلاف الذين استشهدوا من أجله!! إن دعوة منبر السلام (غير العادل) الإنفصالية قامت على مبدأين خاطئين اسلامياً وسياسياً ووطنياً! هما الاختلاف (الديني والعرقي) بين الشماليين والجنوبيين! فالدين ما كان يوماً عاملاً للفرقة بل كان ضامن وحدة بين كل أصحاب المعتقدات. فدولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة ضمت اليهود والنصارى والمشركين معاً داخل يثرب دعك من اقاليمها في العراق والشام وخيبر ونجران بل حتى اعراب البادية الذين قال القرآن الكريم عنهم (الاعراب اشد كفراً ونفاقاً وأجدر ان لا يعلموا حدود ما انزل الله). فلماذا لم يتميز المسلمون (بدينهم ودولتهم) عن الكافرين من اليهود والنصارى والوثنيين بل وحتى الزرادشتين والمأمويين في فارس وغيرهم من اخلاط الديانات؟! ثم ان هنالك البعد (الدعوي) الذي غفل عنه المنبر الانفصالي، فالجنوب والجنوبيون كانوا من مناطق استهداف الدعوة والتبشير الاسلامي ولمنظمة الدعوة الاسلامية واخواتها نصيب مقدر في ذلك حتى تجاوز عدد المسلمين عدد المسيحيين وان كانوا دون عدد الوثنيين واللادينيين، فساهم الانفصاليون من أصحاب المنبر مساهمة مقدرة- ظلوا يفتخرون بها- في قفل الباب أمام امتداد الدعوة والتبشير الاسلاميين ليخلوا المجال بكامله للنصارى واليهود ينشرون فيه باطلهم، بل وليشنوا حملة شعواء على الاسلام والمسلمين هناك حتى يبدأوا فقراءهم تأسياً بما فعله اجدادهم في زنجبار واسبانيا وبعض بلاد البلقان!! فبأى رد سيواجه أصحاب المنبر- وهم إسلاميون كما تعلم- المولى عز وجل وهم يفرطون في ارض كانت مرشحة لانتشار الاسلام وتوجيهه لحياة سكانها تنازلاً لباطل اليهود والنصارى والاستكبار العالمي؟! إن وزر انحسار الاسلام في الجنوب سيقع على منبر السلام (بدعوته) والمؤتمر الوطني ( بتجاهله) شبه المتعمد على وهم (الرجعى الموعودة) بعد فشل الدولة الجديدة!! ولكن ستسمح اسرائيل (أولاً) والولاياتالمتحدة (ثانياً) بهذه العودة المجيدة؟! قال محاوري: إن امريكا لن تصرف على الجنوب مليماً واحداً ولن تعينه في إنشاء دولته كعادتها في إطلاق الوعود دون إنفاذها. يا أخي لم أعانته طوال سنوات حرب التحرير من الشمال- كما يقولون-، أمن اجل سواد عيون ابنائه؟! ولم اعانته- وبضغط كثيف- في نيفاشا حتى يتم التوقيع على الاتفاقية التي تنقب على حق تقرير المصير؟! أمن أجل الوحدة كان ذلك الضغط ام من اجل الانفصال؟! صحيح ان امريكا لا تعطي شيئاً لوجه الله، انها دولة لا تقوم على العواطف- كما نفعل نحن- وإنما على المصالح المحسوبة بدقة متناهية، ولذا فهى قد دعمت الانفصال لأن مصالحها تقتضي ذلك، ولو ان مصالحها كانت ستتحقق من خلال الوحدة ( لاجبرت) الحركة الشعبية على التصويت لها ولو ضد ارادة الجنوبيين، وستدعم دولة الجنوب- وقد بدأت فعلاً برفع الحظر العسكري والاقتصادي عنه- سياسياً في كل المحافل واقتصادياً بفتح ابواب الصناديق الدولية- التي تمتلك مفاتيحها- بالقروض الميسرة والإعانات وعسكرياً بالتدريب واعادة تأهيل القوات والتسليح المتقدم حتى يظل ميزان القوة لصالحها ضد دولة شمال السودان. فيحاط العالم العربي بالتفوق العسكري الاسرائيلي من الشمال والتفوق العسكري من الجنوب لدولة جنوب السودان المتحالفة مع يوغندا وكينيا! وهكذا لا تقف كارثة إنفصال الجنوب عند حدود تهديد حدودنا الجنوبية الممتدة عبر دارفور وكردفان وسنار والنيل الابيض والنيل الازرق فقط، وانما تصبح وبالاً وكارثة ( أمنية) واستراتيجية لكل العالم العربي!! هكذا يقول واقع السياسة الدولية مع بدايات القرن الواحد والعشرين والذي لا يعرف العواطف والاوهام والاحلام، ولذا لم يبال (بالسلام العالمي) (والرأى العام الدولي) (والمواثيق الدولية) وغيرها من المفردات والمصطلحات التي لا يؤمن بها ولا يرجو نفعها إلا الضعفاء!! وإلا فقولوا لنا بربك هل سمعتم يوماً ان الولاياتالمتحدةالامريكية او اسرائيل قد تقدمت يوماً بشكوى لمجلس الامن أو الأممالمتحدة ضد دولة اعتدت عليها رغم كثرة ما حدث؟! انهما يأخذان القانون بأيديهما ويردان بأعنف مما وقع عليهما بعشرات المرات وبل بالحرب الوقائية احياناً استباقاً لتهديد لمصالحهما لم يقع! هذا هو المنطق الدولي الذي وجد له موقعاً جديداً بإنفصال الجنوب!! أما المبدأ الثاني الذي بنى عليه المنبر وصحيفته (غير المنتبهة) دعوتهما، فهو الاختلاف (العنصري والعرقي) بين الشمال والجنوب!! ولك ان تتخيل دعوة قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنها:( دعوها فانها فتنة) يتبناها منبر يدعي انه يدافع عن قيم الدين!! أين هو موقع اعراب الاختلافات العرقية من دولة الاسلام وهى تمتد شرقا حتى الصين وغرباً حتى الاطلسي وجبال البرانس وبينها شعوب افريقيا وآسيا واوربا؟! وهل الاختلاف العرقي- في الفقه الاسلامي- مدعاة للوحدة ام الفرقة والانفصال؟! ثم انه من هم أهل المنبر الذين يتميزون بعرق صاف غير مخلوط ويتحدثون باسم الاغلبية الصامتة التي لا ادري ما الذي يجعلها صامتة؟! أهم عرب؟ أهم افارقة؟ أهم نوبة؟! أهل بقى الآن- بعد ذهاب اهل الجنوب- عنصر (واحد خالص) ليشكل شعب شمال السودان؟! هذه دعوة متخلفة ومخالفة لكل مباديء الاسلام الذي جاء ليمحها من أذهان وقلوب الناس وواقعهم. إننا لا نبكي على اللبن المسكوب- وقد وقع الانفصال- ولكننا نتذاكر العبر والدروس أولاً، ثم نبدي دهشتنا ونحن نرى ان صحيفة الانتباهة لا تزال تسير في ذات الخط- حتى بعد انفصال الجنوب- فاذا بها تلعب المشاعر وتذكي النيران وتكاد تمارس دعوة ( المديدة حرقتني) وهى تواصل التركيز على مشكلات دولة الجنوب ومآسيها وحروبها القبلية (بفرح وتشفٍ وشماتة) بادية!! لماذا؟! ما الذي تسعى اليه هذه الصحيفة وما الذي يسعى اليه منبرها (غير العادل)؟! ألا- تبحث يا اخي الطيب مصطفى واركان حربك عن قضية اخرى تهمّ دولة الشمال في أمنه واقتصاده وإصلاح شأنه السياسي ووحدته بعد ان انفض سامر أهل الجنوب؟! أرجو صادقاً ان يغير المنبر وصحيفته سياستها التحريرية دون ان تهزمهم فرحة الانتشار الاعلامي التي غذتها (الاثارة) لا (الرسالة).. فلا يزال هناك مجال لجهدهم في تحقيق (سلام عادل) حتى ينطبق الاسم على المسمى.