ما يزال الناس يذكرون تقلب وجه النميري ذات اليسار وذات اليمين الى ان انتهى به المطاف اماما للمسلمين قبيل مغرب شمسه، مع احتفاظه الدائم ببزته العسكرية الى ان رحل عن الحياة الدنيا مشيرا، وقد يكون هناك اختلاف طفيف بينه وبين سلفه المشير عمر البشير، فبينما كان الاول عسكريا صرفا يتنقل بين التنظيمات السياسية من اجل رحيقها ريثما ينتقل الى مصدر آخر يمنحه الاستمرارية في الحكم، كان الثاني عسكريا ومنتميا تنظيميا للاخوان المسلمين في نفس الوقت، كما افصح عقب المفاصلة الأولى حين قال انه (اخ مسلم) منذ مرحلة الثانوية العليا وبايع اباه زعيم التنظيم البنا في مصر، مما جعله الاطول عمرا في الرئاسة بدفع من المؤسستين الاكثر تنظيما في البلاد عسكريا وسياسيا. الا ان كر مسبحة الايام ربما وضع الرئيس البشير في مواجهة رفاقه في التنظيم السياسي بعد طول عشرة، فها هو يصرح على الهواء انه ضد المذكرات وسيعمل على محاسبة واضعي المذكرة الاخيرة، ولعل المتابعين لمسيرة الاسلاميين يدركون ان هذه المذكرات درج الاسلاميون على تدبيجها قبيل كل تغيير في تنظيمهم منذ مؤتمر العيلفون في الستينيات الذي اطاح بمناهضي الدكتور حسن الترابي وابقاه على سدة التنظيم الى ان اطاحت به مذكرة العشرة الشهيرة، اذن ربما استشعر المشير البشير خطورة ما يجري أو لعله محيط بتفاصيل لا تذكر في لقاء تلفزيوني، فآثر ان يبادر بمفاصلة المعتزمين مفاصلته. وما يرجح ان البشير خط خطه الذي سيسير عليه في مقبل الأيام انه قال ان الجهة الوحيدة التي عليها الدفع بمذكرات هي المؤتمر الوطني وعبر اجهزته تحديدا، وجزم بأن لا وصاية على المؤتمر الوطني من خارجه في اشارة الى الحركة الاسلامية، وقال بصورة جلية ان من يدعون انهم (اهل الحل والعقد) افرادا او جماعات لن يفرضوا وصايتهم على الحزب، بل ذهب اكثر من ذلك حين قال ان من وقعوا على المذكرة من المؤتمر الوطني يجب ان يقدموا للمحاسبة، وقال بوضوح (لن نقبل بالوصاية من كيان او افراد او جماعة) ولا توجد جماعة غير الاسلاميين المتخندقين داخل حركتهم الاسلامية ويبحثون سبل بعثها من رقدتها ومن ثم تطويرها حيث تقول بعض التفاصيل المنسربة من بين نقاشات الموقعين على المذكرة، ان من يسند عملهم الاصلاحي نافذون في الحزب والدولة، ولكنهم بالاساس حريصون على حركتهم اكثر من أي شئ آخر. وكما يوضح المفكر الاسلامي المعروف الدكتور الطيب زين العابدين فإن الشباب الذين دفعوا بالمذكرة لم يتحدثوا عن المؤتمر الوطني، بل انصب حديثهم على الحركة الاسلامية التي يتولى امانتها العامة علي عثمان محمد طه. وتذهب بعض التحليلات الى ان المفاصلة واقعة لا محالة، وهناك قوتا دفع تدفعان في اتجاهها، اولاهما داخلية والاخرى خارجية، الداخلية يمكننا ان نقرأها من بين سطور المذكرة محل الحديث، بينما نقرأ عن الخارجية في سطور المحلل السياسي والكاتب السوداني المقيم بسويسرا كمال سيف. يقول اصحاب المذكرة ان هدفهم الاساسي هو إخراج الحركة الإسلامية وإحيائها لتتوفر البيئة اللازمة للمراجعة الأمينة والنقاش الحر اللذين يمهدان الطريق لإعادة التأسيس واستكمال البناء، بعيدا عن الدولة ومؤسساتها وحزبها الحاكم، مما يعني انهم راغبون في النأي بحركتهم وانهم زاهدون في الاستمرار في الصيغة الحالية للحكم، وهنا ينبهنا زين العابدين الى ان الحركة الاسلامية غير مسجلة وهي الحركة الوحيدة التي اختفت من الساحة السياسية والفكرية والثقافية منذ مجئ الانقاذ، ويقول ان هذا الوضع العجيب لابعد الحدود يجب ان لا يستمر، ويقول اصحاب المذكرة الالفية انهم عازمون من بعد فك الاشتباك بين النظام الحاكم والحركة الإسلامية، على السير في اتجاه التطور الديمقراطي السلمي، في إطار مشروع وطني رشيد، وهو ما يشير بوضوح الى انهم ساعون لتغيير النظام كليا، وان كان عبر الانتخابات. اذن ربما كان الحراك نحو المفاصلة الثانية بقوة الدفع الداخلية قويا بدرجة كافية لدفع البشير ليتحسب ويعد عدته له، ولكن كمال سيف يروي لنا تفاصيل الدفع الخارجي حين يكتب عن نصيحة قدمها امير دولة قطر الشيخ حمد للرئيس البشير في زيارته الاخيرة للسودان عن ان أي دعم للسودان في مواجهة الزلزال الذي يجتاح المنطقة لن يأتي قبل توحيد الحركة الإسلامية بشقيها الذي مع الدكتور الترابي والذي مع علي عثمان، ويقول ان هذه النصيحة جاءت بعد تنسيق مع الحركة الاسلامية العالمية التي يشرف عليها من قطر الشيخ يوسف القرضاوي، ويكتب سيف عن محاثات جرت منتصف الشهر الماضي جمعت الشيخ راشد الغنوشي بالشيخ القرضاوي ثم الشيخ حمد وأخذ السودان جزءا من هذه المحادثات، حيث إن قضية السودان أصبحت من القضايا المقلقة للحركة الإسلامية العالمية، ولا يستبعد أن تكون الحركة العالمية وراء تلك المذكرات، و أن تكون المذكرات المرفوعة هي واحدة من وسائل الضغط علي الإنقاذ باعتبار أن الحركة الإسلامية العالمية حتى هذه اللحظة تريد أن يلتئم شمل الحركة الإسلامية السودانية دون أية خسائر، ويقول ان هذا الأمر تسبب في اخافة العناصر العسكرية في الحكومة و أيضا في اخافة قيادات إسلامية في الإنقاذ رغم الطمأنة التي تقدمها الحركة الإسلامية العالمية، لذلك اتفق راشد الغنوشي مع الشيخ القرضاوي على العمل من أجل تمكين الحركة الإسلامية السودانية و لكن عبر الخيار الديمقراطي والمصالحة مع المجتمع الدولي، حيث إن السلطة الحالية في السودان تجد صعوبة في التعامل مع العالم و بالتالي لا تستطيع أن تكون جزءا من الثورات العربية و لن يتم قبولها إلا إذا حدثت فيها تغييرات جوهرية تصعد بموجبها قيادات بديلة يكون لديها قبول في الشارع السوداني وفي العالم. ويستشهد سيف على وقوف الحركة الاسلامية العالمية خلف المذكرة بقول أحد القيادات الإسلامية السودانية الموقعين علي المذكرة السودانية عندما ذهب الشيخ القرضاوي الى ليبيا أنهم علموا أن القرضاوي طلب منهم عدم التعامل مع أية جهة إلا بعد إطلاعهم، وهذا ما لم يطمئن له الرئيس البشير وأصحابه. ومع هذه الحيثيات الا ان زين العابدين يستبعد وقوع مفاصلة الآن، ولكنه لا يستبعدها كليا حيث يقول في حديثه ل الصحافة امس (لا استطيع ان اجزم بحدوث مفاصلة بين البشير والحركة الاسلامية الى ان تستعيد الاخيرة شخصيتها واجهزتها، ومن بعد لها حق التقرير في ان تكون مستقلة او متحالفة)، ولكنه يؤكد ان الرئيس البشير ومنذ هذه اللحظة سيسمع الكثير من الحركة الاسلامية التي «لن تسكت بعد ما حدث، فهي في حالة ململة كما ان اعضاءها ليسوا خاضعين للمحاسبة من البشير او المؤتمر الوطني او الحكومة)، بينما يعتبر سيف ان المذكرات مجرد وسيلة للضغط علي البشير لاصلاح المسار واستيعاب كامل الحركة الاسلامية في المستقبل المدخور للحركات الاسلامية في المنطقة كما تخطط الحركة الاسلامية العالمية، ويتخوف سيف من أن يعلن البشير الحرب علي دولة جنوب السودان لكي يوقف هذه الحركة المتنامية ليذهب بنظامه في اتجاه الانتحار، أو أن تغير الحرب وظروفها ما هو جارٍ.