٭ التاريخ مثقل بالسياسة، والمعتقدات والأساطير، من سمات التاريخ «اللصيقة» به، أو لعلها الأصيلة فيه أن يظل مختلفاً عليه وحوله، ليس فقط بسبب تباين الرؤى ووجهات النظر، ولا فقط بسبب حتمية الجغرافيا، وإنما أيضاً بسبب الاختلاف في المعتقدات والأفكار والمصالح. ٭ ودعك من وقائع التاريخ، الشخصيات التاريخية صاحبة الوقائع نفسها مختلف عليها. ٭ مثلاً امرأة ك «كليو باترا» آخر ملوك البطالمة، حكمت البلاد والرجال اختلف في سر قوتها، قيل إن جاذبيتها وجمالها هما السبب، وقال آخرون إنها كانت قبيحة إلى حد الدمامة. ٭ عندما قدم المتحف البريطاني في عام 1002م معرض (كليو باترا المصرية من التاريخ إلى الأسطورة )، كتبت صحيفة «الصنداى تايمز» على صدر صفحتها الأولى أن كليو باترا كانت قصيرة وقبيحة، وذهبت الصحيفة في مقالة طويلة إلى أن كل ما قيل عن جمال كليو باترا وسحرها خالٍ من الصحة، ولا علاقة له بالحقيقة، وأن أسطورة جمالها كبرت بعد موتها، وأن كليو باترا الحقيقية كانت قصيرة وسمينة وذات أنف معقوفة وأسنان سيئة. ٭ وردّ أحد كبار مسؤولي الآثار في مصر على المقال بتأكيده على أنه لا توجد أية أسس علمية لفكرة أنها كانت قصيرة وسمينة وقبيحة، وأن تمثالها في متحف أميركا والحفريات في معبدها في جنوب مصر، تصورها جميلة ورشيقة ورقيقة الملامح. ٭ ونحت باحثة مختصة بالمتاحف منحى معتدلاً، وقالت أعتقد أنها كانت فاتنة، لكن فيما يتعلق بجمال الجسد يصعب الحكم على ذلك؛ لأن صورها على العملات وتماثيلها شهدت تغيرات كثيرة على مدى الايام. ٭ ظهرت صورة كليو باترا في واحدة من (الدراخمات) الفضية - وهي أكثر الصور شيوعاً وسط العملات- ظهرت كامرأة جذابة مع تعبير مشرق مبتسم تقريباً، وعينين كبيرتين وأنف معقوفة قوية، وذقن بارزة، وكان شعرها مسحوباً إلى الخلف وفقاً لتسريحة الشعر المعروفة باسم (الشمام) ؛لأن تقسيماتها تبدو كقطع الشمام. ٭ وركّزت كتابات على كل ملمح من ملامح كليو باترا على حدة، وأصدرت أحكاماً أخلاقية على كل ملمح من ملامحها، ففمها هاوية شرسة، وعيناها نافورتان من البلور، ولم تكن لها عينان لترى بهما، بل لتغويا الرجال، وفمها لم يكن لتأكل به بل لكي يختزن القبلات لاستخدامها لاحقاً لأغراض سياسية. ٭ أما بلوتارك الذي كتب سيرة حياة انطونيو بعد وفاة كليو باترا، وكانت كتاباته المصدر الرئيسي لمسرحية شكسبير (انطونيو وكليو باترا)، فلم يقطع بجمالها الجسدي، لكنه قال: (كانت ذكية وساحرة)، وأضاف أن صوتها وسحر صحبتها من أجمل مفاتنها. ٭ كيف كانت تبدو كليو باترا؟ هل كانت رائعة الجمال كما صورتها اليزابيث تايلور على شاشة السينما؟، أم كانت امرأة استخدمت بلا خجل جاذبيتها الجسدية للإيقاع بالرجال الأقوياء كما ذهب إلى ذلك مايكل لوفريك؟، أم أنها كانت سياسية ماهرة وذكية وفق ما قال بلوتارك؟ ٭ هل كانت كليو باترا فاتنة ورشيقة ورقيقة الملامح كما تصور وجهها التماثيل بغطاء رأسها المزين بثلاثة من أفاعي الكوبرا؟، أم أنها كانت قصيرة وسمينة وقبيحة، كما أكدت الصنداى تايمز»؟! ٭ الإجابة الشافية في ذمة التاريخ، والتاريخ كله مختلف عليه، مختلف على وقائعه ومختلف على شخصياته. ٭ هل يدرك زعماؤنا (المبجّلون)، أننا مختلفون عليهم (جملة وتفصيلا)؟!. * في تقديري، إن أدركوا، سمحوا للتاريخ أن يعيد نفسه، بصورة أفضل، مما تفعل الجغرافيا!!