الفريق دقلو في تراجيديته الإغريقية    الدوري الخيار الامثل    عائشة الماجدي تكتب: (جودات)    القوات المسلحة تصدر بيانا يفند أكاذيب المليشيا بالفاشر    اشادة من وزارة الخارجية بتقرير منظمة هيومان رايتس ووتش    الهلال يحسم لقب الدوري السعودي    أهلي جدة يكسر عقدة الشباب بريمونتادا مثيرة    الجيش السوداني يتصدى لهجوم شنته قوات الدعم السريع على الفاشر    المريخ يعود للتدريبات وابراهومة يركز على التهديف    برباعية نظيفة.. مانشستر سيتي يستعيد صدارة الدوري الإنكليزي مؤقتًا    يوكوهاما يقلب خسارته أمام العين إلى فوز في ذهاب نهائي "آسيا"    هل يمكن الوثوق بالذكاء الاصطناعي؟.. بحث يكشف قدرات مقلقة في الخداع    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    مخرجو السينما المصرية    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملكة الشمس والجان...دراسة نقدية
نشر في الصحافة يوم 19 - 08 - 2011

ان أي عمل فني لدى دارسي العلوم الانسانية يحتمل النظر إليه من عدة زوايا، فعالم الاجتماع ينظر إليه من زاوية تبرز اهميته في المجتمع ومدى تأثيره في التغيير الاجتماعي ونمو معرفته بذاته. بينما المؤرخ يرى ان التاريخ الذي يرتبط بسيرورة شعب من الشعوب انما يستكشف اسباب نصوع تاريخه ونتائجه في حالها الراهن وقوة تمسك تلك النتائج أو ضعفها وأسباب ذلك. كما ان التاريخ العظيم انما يوحي إليها بكثير من ابداعاتها. وتشكل تلك الابداعات بدورها مرجعية أمينة لتاريخ تلك الشعوب وفكرها حين يكون النظر إليه من الداخل وتتبع مساراته في الناتج الثقافي عبر الحقب والازمنة كما يقول استاذنا الراحل أحمد الطيب في سودانوياته الشهيرة. «ان ثقافة الأمة هي واقع تلك الأمة، والفن مثل اللغة هو وسيلة التعبير عن ذلك الواقع وتسجيله. وبالنظر المتأمل لفنون الأمة تكون معرفتنا لهذه الأمة. فانني مما آثروا دائماً النظر إليها من الداخل عبر مصادرها التاريخية. ذلك لأن خصوصية الثقافة ليست مظهرية أو خارجية. ولكنه كنه مستبطن لابد من التنقيب فيه والتفتيش فيه في تاريخه».
والتشكيلي الروائي سيف الدين حسن بابكر يبدو انه من خلال النظر إلى التاريخ من الداخل قدم إلينا هذا العمل الجميل رواية ملكة الشمس والجان. وقراءتي لها كانت من جانب التاريخ الثقافي للأمة السودانية من الداخل. وأنا لست بكاتب رواية، ولكني كفنان تشكيلي أتحسس جمالها بحس الناقد التشكيلي قادنى إلى ذلك لأنها مستوحاة من عمل تشكيلي أثري يمثل النموذج الأعلى لمرجعية الرواية وصياغاتها وزواياها المتعددة.
بيئة الرواية
قال كاتبها: «احداث هذه الرواية حقيقية خالطها حلم وسار مع فصولها بداية ونهاية. المكان فيها هو بعينه وكذلك الزمان. بل أحد أشخاصها مازال حياً حتى مثول هذه الرواية للطبع».
ويضيف ان احداث رواية ملكة الشمس والجان تدور في الريف السوداني. «في مكان وزمان معلومين».
معلوم أن الروايات التي تستوحي مواضيعها من الريف السوداني كثيرة وان أغلب كتابها منه. تعلموا في المدينة او تلقوا بعض تعليمهم في الخارج وعادوا تدفعهم رغبة التغيير كواجب عليهم يردون فيه جميل اهليهم الذين هم اغلبهم لم يدخلوا المدارس وان احتفظوا بقيم وتقاليد استمدوها من دينهم وخليط ثقافاتهم على مر الازمان تعينهم على تدبير شؤون حياتهم. وتبدأ القضية في أحلامهم في صور شتى لتنمية ريفهم من تشريح أحواله ونقل تجارب الآخرين إليه خاصة أوربا. أحوال واقعية موروثة... هم في الحقيقة كثر.
والرواية السودانية وجهت جل اهتمامها إلى الريف. ومن هنا «نالت اهتماماً خاصاً، ليس لعمق ارتباطها موضوعياً بالريف إلى درجة التوحد التاريخي، نشأة وامتداداً، وحسب، وانما نجدها بالاضافة إلى ما سبق ترسم للريف السوداني صورة خاصة متميزة. فيها الكثير الجم من الحنين إلى الماضي. هذه الصورة الخاصة والمتميزة قد توحي بها أو تثيرها واقعة حقيقية كما هو في هذه الرواية التي بين ايدينا، - ملكة الشمس والجان - ولعل الظاهرة الملفتة للنظر ان أجمل الأعمال الابداعية السودانية هي تلك التي تم انتاجها خارج الوطن... لعله الحنين إليه. أو لعلها موحيات المكان الأليف تتداعى في الغربة. موحيات من الواقع الحياتي للناس بكل تناقضاته أو موحيات من الأسطورة أو التاريخ تثير الكاتب ليعبر عنها. أو قد يكون الكاتب في الرواية السودانية متأثراً بكتابات أخرى أو ايدولوجيا ولكنه يظل ملتزماً أخلاقياً بكل طموحات وتطلعات أهل الريف واحترام تقاليدهم ومعتقداتهم متخذاً البيئة الطبيعية والثقافية والتاريخية اطاراً مرجعياً لكل تجلياتها الجمالية والفكرية. لتحتفظ الرواية «في كل الحالات بنكهتها الخاصة ولونها المميز، وهي نكهة دائماً تتجاوز أو تقلل من طغيان الآيدولوجيا الخاصة أو الموقف السياسي للكاتب لتعبر إلى العالم معلنة مشاركتها كما حدث في روايات الطيب صالح. أو ابراهيم اسحق يحبها الناس في الريف والحضر.
والرواية في الريف السوداني لم تستلهم شخصيتها من التميز المكاني وحده «أو الواقع لكن من الزماني أيضاً حين ارتفعت منه إلي الأسطورة عبر التاريخ والتراث المتجسد في حكاية شعبية مروية أو أثر مادي مثل رسم أو مبنى أو تمثال كما في رواية ملكة الشمس والجان. اثر حقيقي إلى حيث يمكن تجلية حقيقته الأولى.
المكان والزمان
دخل كاتبها بعد أن هيأ بيئة المكان والمشهد لزوار متحف السودان مصوراً مشهد عبد الغني (الشخصية المحورية في الرواية). «أبعد عبد الغني وجهه قليلاً عن الصندوق الزجاجي متأملاً تعريفاً كتب بجانب التمثال:- (تمثال من الذهب الخالص للملكة أمان تيري يعود تاريخه للفترة المروية. وجدته فتاة صغيرة بالقرب من جبل البركل عام 1948م. فقدت رجله ويده اليسرى بعد العثور عليه مباشرة قبل أن تتمكن السلطات من استرداده). (الفتاة تجد التمثال؟ الأجزاء المنزوعة من التمثال الرجل واليد اليسرى، المفتاح، الذهب كمادة صنع منها التمثال). استخدم الكاتب أسلوب التعبير الرمزي ليربط بين الماضي والحاضر، بين الواقعي والأسطوري ربما كدلالات تشير إلى حالنا الراهن في وطن منزوع الاجزاء يمنع البحث عنها أو البحث عنها في التاريخ على الرغم من تجزرة في التاريخ ونصوغه يفقد تماسكه). «اليد والقدم اليسرى انتزعتا انتزاعاً وحشياً من مكانيهما وتبعهما المفتاح». ويتردد صدى صوت الشاعر
يد الملكة في الصندوق
عند زينب بت سكسوك
كراع الملكة في الدكان
عند خلف الله ود سلمان
٭٭٭
دي ملكة وحارسها الجان
وما بيلقاها كل انسان
الأجزاء المنزوعة دلالة تغيير وقائع التاريخ... تاريخنا.
وبأسلوب الاسترجاع قارب الكاتب بين الواقع والأسطورة، بين الماضي والحاضر، في مسرح واحد. وكمن يتحرى في الذي حدث أخذ سيف الدين قلمه لتتبع آثاره خاصة بعد أن علم ان السلطات حينها منعت الصحافة الخوض فيها. أخذ سيف التمثال إلى تاريخه متخذاً منطقة مروي معملاً لتشريح لأحداث الرواية وتجليات فكرتها من حقيقة ماثلة أمام الناس من التاريخ. عبد الغني الشخصية المحورية في الرواية خيانة زوجته له بعد ان خرج من هول الصدمة جعلته يهرب إلى الجبل يبحث عن شئ ما، عن قيمة ما تنسيه فعل زوجته القبيح فحيثما ذهب يكتشف ان كل ما في الكون يأخذ وضعاً غير طبيعي لا بل ليس بالمثالية التي يظنها في محيطه. الكائنات الساكنة تتحرك، الجبل يتحرك، الأرض ترتج، الصخر ينفلق وتخرج منه نصيرة (ربما اسم تعيده نفسه له دلالة الخروج) بت الجبل من معبد آمون بجبل البركل. قصيرة جميلة وشهية تطلب القليل - القمح - مقابل الكثير - الذهب -. بعد قرون الخراف الحجرية تنهض واقفة وتتحرك تبحث عن الماء والعشب والحياة. الأهرامات تغير من وضعها رأساً على عقب. تهارقا الفرعون النوبي يتحرك من موقعه وأشجار النخيل تسير خلفه. أمام هذا انهارت ارادته، نصيرة قادته تجاه الجبل مسلوب الارادة أحضرت له طبقاً من الذهب ليعطيها قمحاً. وهي مقارنة مستحيلة. وعبد الغني حين يفيق من هول الصدمة يبحث عن تفسير لهذا الذي لا يستطيع ادراكه فقد اختلطت لديه الحقيقة بالخيال. فالذي حدث لعبد الغني «تجاوز الواقع إلى رؤية في الوجود الانساني في الحياة البشرية وهو ظهور واقعي وخيالي في نفس الوقت. والصورة التمثال حقيقة في نفس الوقت وكل تأثير يقع على الحقيقة هو من انتاج الواقع». ويفيق في لحظة من الايمان العميق على الرغم من هذا الذي يبدو أمامه من فوضى في الكون والذي حدث له من خيانة زوجته إلا ان كل شئ مقدر ومحتوم وعليه الرضا بقضاء الله وقدره. ولكن الضعف البشري يراوده. تسأله نصيرة بت الجبل عن القمح.. يتقدم نحوها سائلاً عن شئ آخر أقرب إلى دنياه، تردعه إياك ان تسأل عن شئ لا تعرفه.. هي تريد القمح مقابل الذهب وهو يريدها هي عارية ومتجردة لعلها تثبت يقينه المتذبذب أو رجولته أو رداً على زوجته، ترده. هم هكذا البشر في هذا الزمان يبدون كبريق خافت وهي من معدن غير ذلك البريق. شرف آمون عندها أغلى مما عندهم من كتاب وسنة هم يدنسونه بأفعالهم الخيانة وتقطيع أوصال التاريخ وبيعه. وهي الوثنية لم تدنسه كما دنسته ست النفر. شيخ يوسف على الرغم من اعتقاد الناس فيه انه ولي من الأولياء إلا انه يفعل كل قبيح. نصيرة لولا الجوع لما عرضت الذهب للبيع. وتتضافر صور من الحياة على ضفتي النهر وبكل تناقضاتها تشكل الحياة الحقيقية لأهل تلك المنطقة».
قصة تمثال الملكة ونصيرة بت الجبل دخلت في حياة الناس تقلب مواجعهم وتكشف غيبهم وحاضرهم وتتحكم في حاضرهم. أوحت إلى الشعراء بالشعر والغناء. «صوت الشاعر يتردد صداه داخل رأس عبد الغني بل يغور داخل طبلة اذنه» كالصوت المكتوم:
«يد الملكة في الصندوق
عند زينب بت سكسوك
كراع الملكة في الدكان
عند خلف الله ود سلمان
٭٭٭
دي ملكة وحارسها الجان
وما بيلقاها كل انسان»
هكذا سكنت في وجدان الناس. اعتقاد أصبح راسخاً في أذهانهم يحملونه جهراً ويعبر جهراً من فم الدرويش يوسف يجري كالحكمة. تحولت إلى اسطورة يحمونها بقداسة ثم ينتهكونها بأفعالهم حين تطغو الغريزة:
«هذه ملكة يحرسها الجان
وما بيلقاها كل انسان»
«التصق عبد الغني بالصندوق الزجاجي والذي يحوى تمثال الملكة والذي رمز إليه بنصيرة ولعل دلالة الاسم نصيرة التمثال المصنوع من الذهب خلقت ذلك التماسك القوي بينه وبين عبد الغني الفقير من كل شئ إلا من أمل خائب ظل يعتصره منذ أن وجد زوجته تنام عارية وبجوارها محيميد» نصيرة بت الجبل تقترب منه من داخل الصندوق. لعلها تنتصر له وتحثه. تتجمل بقيم الماضي قامتها منتصبة، صدرها بارز.. نحيلة الخصر.. مديدة العنق» هو وصف لتمثال قام المثال بنحته. لكنها الآن تحولت إلى قيمة.
عبد الغني شاهد عصر يعيش كما يعيش اهله في الريف تمر عبره كل ما يدور من حياة واقعية واسطورية. يختفي فيها منطق الحياة الواقعية خلف الحلم والذي هو دائماً بلا عمق موضوعي يدركه الآخرون ويشاركون فيه هي في احساس كل واحد منهم بصورة وبعمق مختلف. يأتي ابهار ذلك العمق معتمداً على الغرائبية كمنطقة دحر أسطوري لا تسمح بتجاوزها. كل كائن هنا يؤدي دوراً مستقلاً في مسرح الحياة ينسجم أو يفارق حتى اذا انسحب منه لا تقف أدوار الآخرين. بل ان دور الكائنات هنا يشكل من نمواً ديالكتيكياً اذ ان الكائن محصور في منطقة معينة لا يتعداها مهما تعددت اوقات ظهوره أو تباعدت أزمانها. تنداح الأحداث تلتقي أو تفترق تختلط حالات التقوي والفجور. كلها تمر عبره. التجربة أو الحكمة وتصبح أمثالاً غالية المنال غير قابلة للتطبيق حيث تجاوزها الزمن. لكن تبقى الخواص التي تميز الحلم عن الواقع هي التي تشكل ديكور المسرح وفنياته الأخرى من اصوات واضاءة. خواص تميز الحلم عن الخرافة الشعبية أو الأسطورة. الحلم يثبت في ذاكرة رائيه والخرافة تتنوع بتعدد الرواة وطريقة تقديمهم لها. هي في الحقيقة تنمو بأدوات تناسب زمان ومكان سردها. هو عنصر من عناصر الرواية قابل للتحريك على خشبة مسرح الحياة. من خلاله يحول سيف الدين الواقع إلى أسطورة أو قل يقربها منه. واقع أقرب إلى مايترآى للنائم من احلام حينما يمزجه بالتاريخي وبالمتخيل. أمر يتيح للأشياء الميت منها والحي والغائب والحاضر ان تؤكد وجودها في حياة الناس وترفع أو تحط من شأن الناس العاديين. عاديون هم الناس ولكن تنطوي عاديتهم على قيم مثل الحرية الأصيلة في الانسان مهما تدنى في التراتب الطبقي الذي يعتصره في أدنى السلم. قضت بابوية خادم الدهارمة كل عمرها تحت ذلك السلم الظالم تخدم بلا كلل أو ملل». لم يشفع لها كبر سنها وهي تجر رجليها واناء ضخم على رأسها آيبة من النهر صباح مساء لتملأ جرار أسيادها بالماء.. فالحرية هنا غابت عن القاموس العشيري». لكن في اعسر ساعات القهر انفجرت فيها بذرة الحرية الكامنة في الانسان منذ الأزل. واتخذت وجهتها الطليقة حين كشفت عن أسباب وجودها وقيمتها كانسان. هي هنا وتمثال الملكة نصيرة بنت الجيل سيان في غربة النسيان وفي بوابة الخروج كلاهما طاهرة ونقية لا قيمة لهما إلا بما تقدمان من فائدة للناس. بابوية تخدم حتى تبين عظامها دون اعتبارها كانسان وتمثال الملكة تنزع اعضاؤه دون اعتبار لقيمته التاريخية. ذاك «ان كل عاقل بفطرته الغريزية يدرك بأن وجود بابوية ودوامها في هذه البقعة ليس بذاتها بل بذات عليا هي العارفة والمدركة لحقائق الاشياء هنالك أسطورة أيضاً من وراء وجودها. فلا يعرف سر ذلك إلا تلك الذات نفسها وبنفسها» ونصيرة تعف ان تنزل من مكانها في الجبل لنفس الأسباب. في هذه الأرض المدنسة ينكشف سر نصيرة بنت الجبل وجمالها بل تبدي ماتظهره من قيم في طلبها لعبد الغني القمح مقابل الذهب وتعف عن الحرام فلها قيم تحميها عكس اهله الذين تمارس نساؤهم الحرام ويفعلون عكس ما يعتقدون أو يعتقد فيهم الناس. الدرويش يوسف الذي يبدو كولي من أولياء الله يمارس الزنا مع الخدم ويشرب الخمر ولا يهتم بستر عورته. أي دين هذا الذي تعتقدون؟. هنا مركز الفكرة فحينما تسطرع الثقافات تتولد القيم. قيم نحلم في ان نراها الآن قيم التوحد والتميز في السودان. قيم تناولها كل كتاب الرواية في الريف السوداني. ما من أحد منهم لم يتعرض لتمازج الشعب السوداني من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه ومن أقصى شرقه إلى أقصى غربه. الذي حدث لعبد الغني «يتجاوز الواقع إلى رؤية في الوجود الانساني في الحياة البشرية وهو ظهور واقعي وخيالي في نفس الوقت والصورة التمثال حقيقة في نفس الوقت وكل تأثير يقع على الحقيقة أو الحلم هو من انتاج الواقع.
التأويل المجازي في الرواية
استخدمت الشعوب على مختلف أزمانها التأويل المجازي كأسلوب يضفي كثيراً من الحيوية على أساطيرها. استخدموه كأبعاد غرائبية لاخفاء الحقائق خلف ستار كثيف من الألفاظ المجازية اذ في اعتقادهم ان الحقائق تتدثر بأثوابها الشفافة وتختفي كلما أمعنت في الأفق الأسطوري. هناك يصعب التصريح بها إلا رمزاً على الرغم من حقيقة عريها ووضوحها. تتخذ من الرمز نقاباً لها تختفي وراءه كما في كثير من الأعمال الفنية في التاريخ. مثلما اثير حول «لوحتي الموناليزا والعشاء الأخير للفنان ليوناردو دافنشي». وكما في تمثال نصيرة بت الجبل بل في كل الكائنات الصامتة التي تحركت في مخيلة عبد الغني. التأويل المجازي لا يقتصر بالضرورة على الصور المجسمة فقد يكون شخصية أسطورية أو دينية أو رسماً في لوحة. لكي نصل إلى دلالات هذه الرموز لابد من تأويلها تأويلاً مجازياً. ان وصف نصيرة بت الجبل كاملة الاجزاء أو منزوعة وبقية الكائنات عند سيف هو تأويل مجازي يكشف عن موقف أخلاقي. كيف؟ يتخذ سيف من تلك الكائنات الجامدة رموزاً إلى حقائق ظلت تخفي عن الناس عبر منع الصحافة عن الخوض في اسباب اختفاء التمثال. لا يجدها إلا انسان طاهر لا يعرف قيمتها الحقيقية أو خواجة يعرف قيمتها. وانها لقارئ التاريخ لا تقف عند كونها ذهب خالص. يقف عندها كقيمة تاريخية باقية وهي لا تقاس بالذهب أو بالحجم ولكن بمدى التأثير الذي تحدثه في تماسك الشعوب أو فقدانها. عبد الغني يعود إلى وعيه حين يسمع أنغام الربابة تصيبه بالدوار وتعود اللغة بينه وبين التمثال تقترب منه نصيرة - هكذا كان يخيل إليه - تنتهك وقاره المصطنع صوتها يأخذ بروحه ويلغي ذاته. «لا شئ يقوي على انتزاع صوتها وصورتها الأبدية... ان نصيرة مادة وعدم.. ثابتة وأبدية». ان حياة نصيرة في موتها.. «لماذا لم تقبرني؟ ان وضعها كاشفة لا يغير حالها من حال إلى حال - الرياح تعريها ولا تغير حقيقتها. الناس سرقوا أجزاءها وأخفوها ولكن لم تتغير حقيقتها. فهي مادة وعدم».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.