شهد النصف الثاني من القرن العشرين وحتى منتصفه العهد الذهبي للأفندى ( المعلم المثقف ) جيل دخل المهنة يحمل أوراقاً وأقلاماً وخرج عنها يحبو الى الخمسين والستين حبواً ويحمل أوراقاً واقلاماً عركته ساحات معاهد التربية وعنابر الداخليات عندما كانت تلكم الساحات والداخليات حقولاً للتربية العملية ومنابر فكر وميادين رياضة ومدارس لقيم الحق والخير والجمال واسلوب حياة ومنابر سياسية . كانت حياة الناس هداوة بال وكانت حياة هذا الجيل الترحال فهمو والفلاة بلا دليل ووجوهم والهجير بغير لثام وهم يستريحون بهذي وهذا ويتعبون عند الاناخة والمقام . يرفعهم آل ويخفضهم آل ، عرفتهم مضارب الكبابيش وحواكير الرزيقات ورواحيل المسيرية، استأنسوا بالرمال فى صحراء بيوضة وسارت معهم اسلاك الهاتف بصحراء العتمور ،امطرتهم السحب الثقيلة بالرنك والجبلين وراح بعضهم سنبلة فى واو بحر الغزال . سافروا مع النهر الخالد بجنادله وعنادله عرفوا من الوطن سهوله وانجاده ، ضربوا خيامهم فى ذرا الحتان وفى مدارج القيصوم والطباق - اسرجوا لليل بجاوية خنوف لهم فيها منافع وجمال حين يريحون وحين يسرحون . هذا جيل لم يعرف طرق الابواب بحثاً عن الدروس الخصوصية ولادروس الأمسيات مدفوعة الثمن ، ولم يمتهن مهنة تتقاطع مع سلوكيات مهنته - جيل رصد راتبه خدمة لمكتبته المنزلية ومتابعة كل جديد فى ميادين الثقافة والآداب والفنون - ذخرت مكتبته بأحدث اصدارات مجلات ( العربى ) و(الدوحة ) (حوار ) و ( الرسالة ) و ( هنا لندن ) - ازدانت مكتبته بمؤلفات المعري - المتنبي - الجاحظ - ومحمد مندور- وابن منظور -ووليم شكسبير وسومرست موم - وايرنست همنجواى - وتولكين - وسارتر - والسكندرديماس - وادغار الن بو - جيل ارتبط وجدانه بمعارك الجيل الادبية بين رواد مدرسة أبادماك ومدرسة الغابة والصحراء وجماليات محمد عبدالحى - وجمال محمد احمد - وصلاح احمد ابراهيم ومدرسة الهمس فى الشعر والديوان وأبولو. أهدوا لطلابهم الصغار كل مؤلفات كامل كيلانى ومكتبة الطفل السودانى للكاتب حسين أحمد حسون ( الذى لم يسمع به الكثيرون الآن ). ارتبط الافندى بالتراث الافريقى فعرف ليبولدسيدار سنجور- والكاتب النجيرى وول سوينكا - وتشينى اشيبى- والن باتون والكتابات الزنجية للفيتورى . كان الافندى شامة بين الناس فى هندامه الأنيق وأريجه النفاذ ، أرسى للتعليم قيماً غير مكتوبة توارثتها الاجيال . آمن بعظمة مهنته وماضن عليها بغالٍ ولا رخيص ، واستصغر كل عقبة دون بلوغ غاياتها العليا . كان قدوة ونبراسا لطلابه فى مجالات الرياضة والثقافة والعلوم وكل اضرب الخير . تفقد أسرة طلابه بالداخليات فى عتمة الليل البهيم يذود عنهم هوام الليل . كان موضع تقدير المجتمع كله لأنه صاحب رسالة وصاحب موقف من كل قضايا المجتمع فهو للناس إمامهم ومحط رحالهم وكبيرهم جيل كان لطلابه برد الصيف ولمجتمعه حر الشتاء ولوطنه أعلام ازدانت بها دول المهجر فعرفوا ان الزول السوداني لايمكن ان يكون الا معلماً نهل من منبعهم قادة المجتمع في مجالات الفكر والسياسة فأضحوا بدورهم رموزاً في مجتمعاتهم ودولهم ومازال (الأفندي) في ذاكرتهم تاريخاً يروى للأجيال . ثم ظهرت جانحة الفضائيات والشبكة العنكبوتية والهلال والمريخ وبرشلونة والمسلسلات المصرية وعصر الحداثة فى مدرسة الموبايلات فسحقت الثقافة والادب ومعهما الافندى. واسلمت الناس لكل ماهو سطحى فاندثر العصر الذهبى للافندى بتماذج طلابه ومعلميه ، كما ذهبت قبض الريح حصة الفن والمكتبة وقراءة الاستماع - مات الكثير من الجمال ادركه الزمن وتحولت الحياة الى شاشات خالية من نبض الحياة وفضاء ممتلئ حتى الثمالة بما تبقى من ليل القنوات الفضائية. * دنقلا الولاية الشمالية