..... ذهبت الأحداث وبقيت الذكري الجميلة .... وهكذا الدنيا يذهب فيها الزبد جفاء ويمكث فيها ما ينفع الناس .. ذهبت أحداث جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي وبقيت جذوتها في القلوب متقدة حتى اللقاء بأحداث الجائزة التالية. وهناك بعض الهوامش والتعليقات علي أحداث هذه الجائزة, وحسبها فخرا ما تركته في قلوب وعقول الناس. فالتنظيم كان ممتازا ولكنه جهد بشري قد يداخله بعض النقصان كما قال بذلك الأستاذ مجذوب عيدروس الأمين العام للجائزة. ومن ذلك البدايات المتأخرة للفترات حتى ضاق الزمن علي المتحدثين وأهملت رغبات المعلقين والمداخلين. ولا عجب فسمة التأخير هذه أصبحت سمة ملازمة لكل برنامج أو ندوه أو مؤتمر حتى اشتهرنا بها نحن السودانيين ... أين دكتور تاج السر محجوب الخبير الاستراتيجي الذي انسرب تاركا الجمل بما حمل بعد بح صوته وجف ريقه بسبب الحديث عن قيمة الزمن ومدي احترامنا له. ومن ذلك أيضا إعادة كورال الأحفاد, فعلي الرغم من روعة الأداء وكلمات الدكتور خالد فتح الرحمن إلا أن ذلك لا يبرر إعادته في الختام. وعلي العموم فالهنات البسيطة لاتقدح في العمل الكبير, وكفي المرء نبلا أن تعد معايبه. كنت أتمني أن تنظم الفعاليات بقرية كرمكول في مرة من المرات أو أن تبدأ الفعاليات بزيارة قبر الطيب صالح والترحم عليه. وأذكر هنا انه في عام 2002 أقيم مهرجان لتخليد ذكري محمد احمد محجوب فسألت احد الحاضرين أين دفن المحجوب؟ فحاروا كلهم جوابا ولم يحسم الموضوع ألا المرحوم الدكتور عمر نور الدائم الذي ذكر أن جثمان المرحوم محمد أحمد محجوب قد نقل من لندن إلي أمدرمان حيث قبر بمقابر احمد شرفي. ولقد أعدت نفس هذا السؤال في قاعة الصداقة: أين دفن الطيب صالح؟ وبالرغم من قصر المدة التي توفي فيها المرحوم الطيب صالح إلا أن الإجابة كانت: في مقابر أحمد شرفي, في مقابر البكري, في لندن, لا أدري. ومن هذه اللجلجة و الحيرة جاء اقتراحي بزيارة قبره والترحم عليه. أما الضيافة فقد كانت في المستوي الممتاز حتى أن أحد الحاضرين قد علق وقال: لو طالت أيام هذه الفعاليات لخرجنا موفوري الصحة والعافية بزيادة أوزاننا بشكل غير مألوف. لقد أتاحت هذه الفعاليات الفرصة لجماهير المثقفين عموما الذين تتقاذفهم الحياة كما القوارب الطائشة في عباب البحر- أن يلتقوا ويتحدثوا إلي بعضهم البعض في لحظات صافية وخالصة من شوائب الذات. كما أتيحت الفرصة للالتقاء بعلماء ومفكرين ومبدعين من أقطار العالم العربي ولا أدري كيف يمكن ذلك لولا أن يسر الله لنا (زين) لتقوم بتهيئة هذا الملتقي الجليل الجميل. أما الأوراق والإفادات فكلها ذات مستوي رائع وحظيت بالقبول والتفاعل مع الحضور الذي لم يتناقص بل تزايد علي مر الجلسات الصباحية والمسائية التي استمرت ليومين كاملين. وهذا شيء من حق (زين) ومجلس أمناء الجائزة أن تفخر به بحسبانها القائمة بهذا الأمر. ولكن الفخر الأكبر لهذا الجمهور الذي وجد نفسه في هذا المحفل العظيم فحرص عليه حتى آخر لحظه , بل أخاله منذ الآن أخذ يتطلع إلي الاحتفالية الثالثة في العام القادم. وما نود ملاحظته في هذا المقام أن جائزة الترجمة التي أدخلت في هذه السنة قد اقتصرت علي الترجمة من اللغة العربية إلي الإنجليزية, ونحن إذ نؤمن علي فكرة جائزة الترجمة فإننا نتساءل لماذا حبست علي الترجمة من العربية إلي الإنجليزية في حين أن الترجمة كما يعرفها الجميع قناة ذات اتجاهين, ولعل الترجمة من اللغات الأخرى (وليس الإنجليزية فحسب) تعد أكثر إثراء للفكر والأدب العربي مما يفيد إنتاج الرواية والقصة العربية وغيرهما إن كان هذا هو القصد. وهذه صلة واضحة بين تقدم الرواية أو القصة العربية وبين الاطلاع علي الآداب الأخرى. ونحن نعلم أن الطيب صالح- وكثير غيره من المبدعين العرب- قد انفتح علي الآداب الأخرى وأفاد منها. وقد حدث ذلك تاريخيا في أوقات ازدهار الترجمة من اللغات الأخرى إلي العربية بدء بعصر بني أميه والعصور العباسية التالية. أما تكريم البروفسور عز الدين الأمين فقد كان تكريما لكل المثقفين والمبدعين السودانيين ... كانت لفتة كريمة من (زين) ومجلس أمناء الجائزة أن يكرموا هذا المعلم الجليل والرجل النبيل والأديب البارع والناقد الحصيف الذي أعطي وما زال, وقدم وما برح, منفقا سبعين عاما في مهنة التعليم والكتابة في انقطاع ونكران ذات. فما أحرانا أن نفعل مثلما فعلت (زين) اعترافا بفضله وعرفانا لجهده, ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله. وان كان الشئ بالشئ يذكر فإن لكاتب هذه السطور كتابا اسمه (عز الدين الأمين عميد النقد الأدبي في السودان) أعده قبل عده سنوات من منطلق الوفاء لأهل العطاء, وقد حوي دراسة نقدية شملت كل أعمال هذه الشخصية السودانية التي نفخر بها. ويكفي أن نقول في حق البروفسور عز الدين الأمين إنه صاحب تسمية الشعر الحديث ب(شعر التفعيلة) وهو الاسم الذي اعتمد أخيرا وذلك عندما حزب الأمر علي الأدباء في شأن تسمية هذا المولود الجديد. كما أنه صاحب نظرية (الأدب المتجدد) التي راجت في ستينيات القرن الماضي. كما أنه تناول في بحثه للماجستير بالقاهرة موضوعا سبق فيه المصريين أنفسهم وهو (نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر) وقد أصبح هذا الكتاب رقما لا يمكن تجاوزه سواء في مصر أوالعالم العربي. هذا فضلا عن مشاركته في مجال التدريس عربيا وأفريقيا. ويكفي أن نذكر أعلاما وشخصيات مرموقة درست علي يديه خلال تلك المسيرة التعليمية الطويلة مثل الأستاذ أحمد إبراهيم الطاهر والبروفسور محمد هاشم عوض والبروفسور إبراهيم الحردلو والدكتور محمد إبراهيم الشوش إلي آخر القائمة التي تطول وتطول. ... وهكذا تشق هذه الجائزة العالمية الفتية طريقها مستصحبة شهرة الطيب صالح في عالم الإبداع الكتابي وتوهج شركة (زين) في عالم الاتصالات. وهكذا تبقي الذكري الجميلة مرة أخري, ويذهب الزبد جفاء ويمكث في الأرض ما ينفع الناس (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) 17 الرعد, صدق الله العظيم.