نقل لي ابن أختي د. ياسر محجوب في حوالي الثامنة من مساء الخميس «22/3» نبأ وفاة الأستاذ محمد إبراهيم نقد في لندن، ورغم أن مرضه كان شديداً استعصى على مشافي الخرطوم، إلا أن تأكيد الموت يختلف عن توقعه، فالثقافة السودانية المستوطنة في دواخلنا تقول «المرض ما بكتلو زول». وقد تغير سؤال الناس عن حال صحته إلى متى يصل جثمان الفقيد! والموت نهاية طريق الأولين والأخرين كما لخص ذلك بصدق الشاعر المبدع صلاح أحمد إبراهيم في رائعته المطولة «نحن والردى»: آخر العمر قصيراً أم طويل.. كفن من طرف السوق وشبر في المقابر». تركت ما بين يدي من مشاغل وبدأت أفكر في مسيرة حياة الأستاذ نقد التي امتدت لنحو ثمانين عاماً قضى حوالى ستين منها في التفرغ التام لخدمة الفكر الاشتراكي الذي آمن به إيمان العجائز، وكان لنصف هذه المدة ملاحقاً من الأنظمة العسكرية الاستبدادية التي ابتلي بها السودان لأربعة عقود، كان خلالها إما قابعاً في سجونها الموحشة أو مختفياً منها تحت الأرض. وكل ما لقيه من غنم في الدولة جراء هذا النضال المرهق الطويل عالي التكلفة المعنوية والاجتماعية والمادية هو نيابة في البرلمان لفترتين قصيرتين بعد انتخابات 65 و86م لم تزد أطولها عن ثلاث سنوات. هل تستحق السياسة السودانية في أحسن حالاتها أن تهدر حياة المرء في سبيلها بهذه الصورة «العبثية»؟ أم أنها الفكرة المثالية التي يؤمن بها المرء ويعتقد أن فيها الحق والخير والعيش الكريم لأهل بلده، ومن ثم تستحق أن يبذل من أجلها الجهد والمال والشباب والحياة الأسرية الآمنة؟ وجهة نظر لا تخلو من وجاهة ولا تخلو من جنون! ولكن أصحاب هذه الأفكار المثالية الشاطحة عادةً ما يتصفون بالشدة والقسوة والتوتر والتعالي على الناس، لأنهم وحدهم يمتلكون الحقيقة كاملة غير منقوصة، وأنهم أولو العزم وأهل التضحية، وأنهم «الفرقة المنجية» للناس من دون بقية الجماعات والتنظيمات، ولكن نقد لم يكن كذلك أبداً. فقد عُرِف بالبساطة في العيش والتواضع الجم والأدب في التعامل والسماحة في الخلق بل وخفة في الروح وميل للمزاح! كيف جمع نقد بين هذه وتلك؟ هذه من طبائع الخلق المجبولة في الفطرة التي يقسمها الله لمن يشاء من عباده المختارين. والذين يتصفون بمثل هذه الصفات الكريمة يرزقهم الله حب عباده، وأحسب أن الأستاذ نقد من أكثر السياسيين في السودان الذين حظوا باحترام وتقدير وحب الناس رغم اختلاف السياسة والفكر وتقديرات المواقف. وقد تجلى ذلك في فراش العزاء الذي أمه الناس في شارع الستين من كل حدب وصوب، ومن كل أطياف المجتمع وطبقاته وشرائحه. كانت أول فرصة لي في التعرف على الأستاذ نقد في منتصف الستينيات بعد ثورة أكتوبر المجيدة، وكنت وقتها طالباً بجامعة الخرطوم، عندما مررت بميدان عقرب في مدينة بحري، وسمعت شخصاً يخطب في ليلة سياسية فاستوقفني حديثه، كان حديثاً هادئاً مرتباً وعقلانياً بلغة عربية سلسة، يلفت النظر بتماسكه وموضوعيته، ولم أجد نفسي مختلفاً مع المتحدث الذي لم أعرفه في تلك اللحظة. وعرفت فيما بعد أنه الأستاذ نقد يتحدث في ليلة سياسية للحزب الشيوعي، فزجرت نفسي لاستحسانها حديثه! المرة الثانية كانت أكثر وضوحاً لاختلاف وجهات النظر بين الحزب الشيوعي وجبهة الميثاق الإسلامي التي أنتمي إليها. كتب نقد في نهاية عام 1968م أو لعله أول 69م عدداً من المقالات بجريدة «الأيام» يهاجم فكرة الدستور الإسلامي التي نذرنا أنفسنا للدفاع عنها، ويخوف الناس من استبدادية الدولة الدينية، فاستفزتني المقالات وكتبت مقالاً ساخناً نشرته جريدة «الأيام» أرد فيه على حجج نقد وأذكره باستبداد الدولة السوفيتية الذي تجاوز كل الحدود حتى على طبقة العمال الذين تحكم باسمهم، ومع ذلك يمجدها الحزب الشيوعي ويتخذها نموذجاً للحكم الرشيد. وأدهشني أني تسلمت منه بعد أيام خطاباً خاصاً من نقد على عنواني بكلية الآداب يقول لي فيه إنه اختار الرد الشخصي على الرد كتابة في جريدة «الأيام» التي يكفي أن نشرت له خمس مقالات متوالية، ويخبرني صراحةً بأنهم في الحزب الشيوعي لا يهدفون لإنشاء دولة شمولية في السودان مثل ما حدث في الاتحاد السوفيتي، ويحترمون دور الدين في حياة الناس على ألا يكون مرجعية للدولة ذات الطوائف الدينية المختلفة. وأعجبتني اللمسة الرقيقة المهذبة في كتابة خطاب خاص لطالب مغمور لم يسمع به وهو الزعيم السياسي المشهور لحزب خرج منتفشاً بعد ثورة أكتوبر. واحتفظت بذلك الخطاب في ملفاتي الخاصة لسنوات عديدة حتى صادرته مني شرطة جهاز الأمن في عهد نميري عندما جاءوا لتفتيش منزلي واعتقالي عقب محاولة انقلاب حسن حسين في النصف الأول من سبتمبر 1975م. واللقاء الثالث كان حواراً سياسياً بامتياز حين دعوته لزيارتي بالمنزل بواسطة صديق مشترك، لعله د. محمد المهدي البشرى رفيقي في معتقل نميري وزميلي بمعهد الدراسات الإفريقية، وكان ذلك مع بداية انتخابات 1986م. واستجاب الرجل للدعوة رغم مشغولياته السياسية والانتخابية، وقضى معي ما يقرب من ثلاث ساعات. وأوضحت له بأني أتكلم معه بصفتي الشخصية البحتة دون استشارة لأحد، ولكن إذا توصلنا لتفاهم مشترك حول موضوعات النقاش فسأنقل الأمر لقيادة الجبهة الإسلامية القومية التي كنت عضواً في هيئتها التنفيذية «27 عضواً» وهي الجهاز التنفيذي الأعلى بالحزب. وقلت له إن الديمقراطية في السودان هشة وقابلة للضياع في أي وقت، وأن أكبر مهدد لها هو الاستقطاب الحاد بين الحركة الإسلامية والحزب الشيوعي، لدرجة أننا لا نستطيع أن نلتقي معكم في أي منبر كان رغم وجودنا المقدر في أوساط المتعلمين وطلاب الجامعات، وما يمنعنا من التواصل معكم هو اسم «الحزب الشيوعي» بكل ظلاله المادية الماركسية، فلماذا لا تغيرون هذا الاسم؟ ثم إن هجومكم العنيف على دور الدين في الدولة يجعل التعاطي معكم صعباً، فهل بإمكانكم أن تتقدموا خطوة وتقولوا بأنكم تقبلون بمرجعية الشريعة الإسلامية إذا جاءت عن طريق نواب الشعب المنتخبين في نظام ديمقراطي حر؟ ونحن وأنتم قد عملنا على تسييس الحركة النقابية والطلابية بدرجة عالية لا تتفق مع قوميتها وأهدافها المطلبية والخدمية، فلماذا لا نتفق معاً على تخفيف درجة التسييس هذه حتى لا تصبح الحركة النقابية نسخة أخرى للأحزاب السياسية المتشاحنة؟وما كنت أدري وقتها أن مقتل النظام الديمقراطي سيتم على يد الحزب الذي أنتمي إليه! لقد كنت أتحدث معظم الوقت وهو يستمع باهتمام، وافقني على أن الديمقراطية السودانية هشة، وأن العداء المحتدم بين الإسلاميين والاشتراكيين أحد مهدداتها، ولم يشأ أن يعلق على مقترحاتي بخصوص اسم الحزب الشيوعي أو موقفه من الدين، ولكنه عبر لي عن إعجابه باجتهادات الترابي الفقهية خاصة في مجالات المرأة والفنون. وانتهى اللقاء على الاتفاق بأنه سيكلف أحد القياديين في الحزب بمواصلة النقاش معي، وبلغت فيما بعد أنه اختار الخاتم عدلان الذي كان آنذاك طالباً في السنة الخامسة بكلية الآداب، ولم يرق لي الاختيار، فقد كنت أستاذاً بالجامعة وليس من اللائق أن أدخل في مجادلة مع طالب عُرِف في الجامعة بسلاطة لسانه وكراهيته الشديدة للإسلاميين. ولم أسع لمقابلة الخاتم ولم يبادر هو. وزرت نقد مرة عندما حضرت في إجازة من باكستان التي كنت أعمل بها في أوائل عام 1994م بمنزله المحروس بشرطة الأمن، وشعرت وقتها أننا أقرب لبعضنا البعض من أي وقت مضى، فقد انهارت الدول الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وشرق أوربا وما عادت التجربة شيئاً يفتخر به، وشهدت أنا بأم عيني بؤس النموذج الإسلامي الذي أقامته حكومة الإنقاذ، فذهب الكثير من الحماس والكثير من الدعاوى الفارغة. وكان محور اللقاء الأساس هو ضرورة الحرية والديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. وزارني الأستاذ نقد مرة في مجلس التعايش الديني السوداني عندما كنت أميناً عاماً له «2003 2007م» ليهنئني على تأسيس المجلس الذي يضم مناصفة قيادات إسلامية ومسيحية من الجماعات والكنائس المختلفة، وقدم لي الأبيات المشهورة لمحيي الدين بن عربي شيخ المتصوفة في الأندلس «1164 1240ه» وقال لي إنها تصلح شعاراً لمجلس التعايش الديني: لقد أضحى قلبي قابلاً كل صورة ٭٭٭ فمرعى لغزلان وديرٍ لرهبان وبيتٍ لأوثانٍ وكعبة طائفٍ ٭٭٭ وألواح توراةٍ ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ٭٭٭ ركائبه فالحب ديني وإيماني وأعجبتني الفكرة، لكني خشيت أن تستفز المشايخ الذين احتاجوا لإقناع كثير للجلوس مع قساوسة الكنيسة!! واتصل بي نقد بعد فوز حماس بأغلبية المجلس التشريعي الفلسطيني في مطلع عام 2006م والمقاطعة التي جوبهت بها من كل الدول الغربية ومن بعض الأنظمة العربية، واقترح عليَّ أن نؤسس هيئة شعبية سودانية لدعم الشعب الفلسطيني، وبالفعل قامت الهيئة بمشاركة من معظم ألوان الطيف السياسي، وقطعت شوطاً في ترويج القضية الفلسطينية، وأبى بعض المتنفذين في الدولة إلا أن يؤسسوا هيئة ضرار بذات الاسم ينشط فيها بعض عناصر جهاز الأمن، فماتت الهيئتان! وطلب نقد ذات مرة من صديقه الدكتور عبد الله حمدنا الله أن يدعو له بعض الإسلاميين المعتدلين ليتناقش معهم بعض الاشتراكيين في الأمور العامة، فاستجاب عبد الله للطلب، ونظم دعوة عشاء بمنزله ضمت كلاً من نقد وفاروق كدودة وكمال الجزولي وغازي صلاح الدين وعبد الرحيم علي والطيب زين العابدين. وكانت أمسية رائعة ومعلمة ومفيدة لم يتخللها لغط ولا اتهامات ولا مشاحنات، وقال الإخوان غازي وعبد الرحيم إنها التجربة الأولى بالنسبة لهما في التواصل مع هذا المستوى القيادي من الاشتراكيين، وشكرا عبد الله على تنظيمها رغم التحفظ الأولي الذي صدر منهما عندما بلغا بالدعوة. وخلاصة التجربة السودانية منذ الاستقلال، أنه لا بد من الحوار والتواصل والتفاهم بين كل قوى السودان السياسية والاجتماعية «هذا هو المشروع الحضاري المطلوب»، حتى نرسي سفينة هذا الوطن المكلوم على شاطئ السلام والأمن والاستقرار، ولن تستطيع أية قوة سياسية أن تحكم هذا البلد منفردة دون الآخرين، أو بصورة شمولية استبدادية، أو بنظام مركزي قابض. اللهم إن عبدك وابن عبدك محمد إبراهيم نقد قد جاء إلى رحابك من غير زاد كثير، وكيف يحمل الزاد إلى بيت الكريم الرحيم؟ وقد وعدت ووعدك الحق إن رحمتك وسعت كل شيء، وقلت لعبادك الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً، لذا نسألك يا أرحم الراحمين ونحن موقنون بالاستجابة، أن تتغمد عبدك نقد برحمتك الواسعة، وأن تغفر له ذنوبه جميعاً كما وعدت، فأنت غني عن سؤاله وعذابه، وأن تسكنه فسيح جناتك. ونشهد بأن عبدك نقد كان رجلاً زاهدا متواضعاً خلوقاً منافحاً عن الضعفاء والمساكين، عفَّ اللسان عند الخصام يألف الناس ويألفونه. اللهم إنه جدير برحمتك ومغفرتك وواسع جنانك إنك أنت الغفور الرحيم.