على مر العصور كانت النخلة رمزا لقوة التحمل والصبر .. تقف بكل شموخ في وجه المحن والظروف .. تموت واقفة ، ولا ترتحل من مكانها ابدا .. بيد ان البشر هم من يرتحلون من قربها من قسوة الظروف وعاديات الزمن ، وفي ارض الولاية الشمالية عانت اشجار النخيل من قسوة الظروف المناخية ، وتألمت من هجرة ابنائها بحثا عن فرص عمل جديدة ، ( الصحافة ) أنصتت الى آلام نخلة وارهفت السمع الى انين ابواب المساكن التي افتقدت خطوات الداخلين . يجري النيل محاطا بالصحاري والجبال والتلال في شريط ضيق من الارض لا يتعدى عشرات الامتار ، وفي تلك المساحة الصغيرة يصطرع الجميع للحصول على مكان .. اشجار النخيل تبحث عن منفذ لجذورها ، والبشر يصلون الى حدود تحملهم من امتداد رمال الزحف الصحراوي وتجوع الشياه والخراف وترحل مع من ضاقت نفسه من البلاد ، في احدى قرى ديار الشايقية على الضفة الشرقية للنيل و في الحقيقة انها ليست الضفة الشرقية بالمعنى الجغرافي لان النيل هنا يرتجع الى الجنوب بعد انحاءته الشهيرة في ابوحمد ، هنا في قرية ( الباسا ) والتي كانت بأسا في حالها فقد خلت مداخل القرية من المارة ، وعميقا داخل طرقات القرية لم يكن هناك من يمشي بين اشجار النخيل وكأن كارثة وقعت بالقرية وفي كل ارجاء القرية التي تمتد في طولها وتتقلص في عرضها اقتداءً بسيد نعمتها النيل كانت خرائب البيوت تنمي عن طول هجرانها من قبل سكانها الذين انتشروا في ارض البلاد الواسعة في الخرطوم والولايات الوسطى والغربية والشرقية ،. قال احد شباب المنطقة بكلمات سريعة قبل ان يغادرنا سريعا دون ان نتمكن من الالمام بتفاصيل القرية ان الظروف صعبة لا يمكن لاحد ان يحتملها ، وامام احد البيوت التي عبث بها الزمن وتصاريفه كانت بوابة المنزل ب ( العتب ) صامدة في وجه الزمن وآثار ( مدماك ) الطين مازالت بائنة رغم طول السنين وجريد النخل مازال متدليا خارج الغرف ولم يكن هناك جار نسأله فقد هجر الجيران بيوتهم ولم يعد هناك من يحكي قصة الخراب الذي حل . بينما يقول الحاج احمد ان الظروف تحسنت كثيرا مقارنة بحقبة تسعينيات القرن الماضي، مشيرا الى ان البنيات التحتية التي صاحبت قيام سد مروي ادت الى تحسن الاحوال كثيرا بيد انه اشتكى من ضيق مساحات الارض مطالبا باستصلاح اراضي التروس العليا وطالب الحاج بكهربة مشاريع الزراعة لانها الحل لتقليل تكلفة الزراعة . وبالرغم من أن القرية تقع بين النيل وطريق مسفلت لاتصل المسافة بينهما الى 2 كيلو متر فإن رمال الزحف الصحراوي قد امتدت الى الارض الخصبة الضيقة اصلا ، والتفت الرمال حول اشجار النخيل كما يلتف الثعبان على فريسته ، رويدا رويدا ستحكم الرمال على ما تبقى من الارض ، ترى هل سيهجر سكان القرية موطن الاجداد وهل سيصمدون كما في السابق ام ان قوة جذب عمران الخرطوم ورياح الصحراء ستدفن أطلال قريةٍ كانت هنا ذات يوم.