منذ أن بدأ التمرد في توريت وأنزارا في منتصف الخميسنيات وكانت دوافعه الأصلية مشاعر الحقد والكراهية التي أججتها الكنائس ضد الشمال المسلم، وكانت كل أهداف تحريضهم أن تستمر السياسة الاستعمارية التي أصدرت قوانين المناطق المقفولة وأن يظل جنوب السودان موطئ قدم لهم في المستقبل لأنهم قالوا عندما عارضوا قيام كلية جامعية في السودان: خرجنا من الهند بسبب انشائنا لجامعة ولن نكررها في السودان. ولكن كنتيجة للوعي السياسي الذي عم البلاد بعد مؤتمر الخريجين نجح الشعب في نيل استقلاله، ونجح الاستعمار في ترك الجنوب منطقة ينتشر فيها الفقر والجهل والمرض، تولت أمره الكنائس تزرع الحقد والكراهية، يرى المواطن في الجنوب اللوحات في داخل الكنيسة تصور أجدادهم مربوطين في سلسلة واحدة يضربهم عربي بالسوط لتقول لهم هكذا كان آباؤكم وأجدادكم يباعون في سوق النخاسة وسيكون هذا مصيركم لو صبرتم على الشماليين. وحقيقة الأمر ان تلك المجموعات المربوطة بالسلاسل تساق قسراً لتباع في امريكا وقد حكاها الزنجي اليكس هيلي في قصته الجذور (Roots). ثم تطورت الأحداث وجاءت الأحقاد بالعديد من المطالب، بدأت بدعوى التهميش.. حقوق الانسان، وانبرى بعض الذين وجدوا المواقع الرفيعة في الدولة الفرص للعمل من أجل المزيد من رفع سقف المطالب، فجندوا الجند لنفس أهدافهم واستمر القتال وانتهى إلى سلام هش ضعيف عام 1972م ثمنه الأصلي وصول قائدهم إلى منصب نائب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التنفيذي في عهد مايو التي أخفقت في توحيد كلمة السودانيين في الشمال نحو قضايا الجنوب كحكومة ومعارضة، إذ سرعان ما انتهى السلام إلى قتال آخر يقوده العقيد جون قرنق لنفس الهدف الأول مضيفاً إليه هدفاً حقيقياً آخر أسماه السودان الجديد ويعني به طرد العرب والمسلمين من شمال السودان وأفرقة السودان مثل ما حدث في تنجانيقا وزنجبار التي قتل فيها السلطان علي واستحيوا نساء العرب وقتلوا الشيب والولدان وتكونت تنزانيا. وجاءت الانقاذ وكانت قياداتها في أتون الحرب تقاتل عن ايمان بالوطن ووحدة التراب، فوقف الشعب خلفها مؤيداً ومؤازراً بالرغم من ضعف حكومة الديمقراطية الثالثة وعدم قدرتها على تجهيز الجيش. سقطت حكومة الديمقراطية الثالثة رغم وثيقة الشرف التي كانت تقول بالدخول في عصيان مدني بمجرد سماع موسيقى الجيش تعلن استيلاءه على السلطة. وقف الشعب خلف الانقاذ لأنه سئم حكم الأحزاب التي لم يحصد منها سوى الخلافات والانقسامات والصراعات من أجل السلطة، تولاها حزب الأمة في نهاية الخمسينيات ليأتي للحكم الفريق عبود، وتولاها بعد اكتوبر 64م ليأتي للحكم جعفر نميري، وتولاها في بداية الثمانينيات لتأتي الانقاذ.. حكم ديمقراطي بلا تنمية.. بلاوحدة وطنية.. بلا علاقات دولية، ولذلك فقد أصبحت هذه الأحزاب مجرد تراثيات لحكم كانت تقوده بيوتات ما تزال تعتقد انها الوارث لهذا الوطن، وشعبنا الذكي اللماح يعرفها ويعرف أهداف ما تفتت منها وماذا يريد ومن يدافع عنها جاءت الانقاذ ووجدت حرب الجنوب قد تأججت بقيادة قرنق داعية السودان الجديد الذي يجب أن يتحرر من العروبة والاسلام، ورأت أن الأحزاب في الشمال تزايد في السعي للاتفاق معه من أجل السلام الذي لم يكن أبداً وارداً في أهداف الحركة الشعبية، كما وجدت انهياراً للاقتصاد وعدم القدرة على تحمل نفقات الحرب بجانب تسيير الحياة اليومية لهذا الشعب المطحون بالأمية والفقر والمرض. تناولت الانقاذ الأمرين اصلاح الاقتصاد وفرض السلام، فبدأت تبحث عن الموارد ودعم الأشقاء والأصدقاء وتم لها ما أرادت إذ قام الشعب بتجنيد أبنائه دفاعاً شعبياً خلف قواته المسلحة كتائب مدربة فيها الوزير وفيها المدير وفيها الجامعي وحامل الدكتوراة، كلهم ركضاً إلى الله بغير زاد وكان النصر حتى الميل أربعين، وطردت فلول المتمردين إلى داخل دول الجوار. ولكن الطامعين في السودان وقد عرفوا ما فيه من خيرات حددوا استراتيجيتهم من أجل منع السودان من التقدم أو التطور أو القوة أو المنعة، وقد سمعوا شعاراتهم تنادي نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، وبدأ التنفيذ بفتح جبهة جديدة في دارفور استهلها عبد الواحد محمد نور في بداية التسعينيات بمؤتمر صحفي في لندن بدعم من الحكومة البريطانية بعنوان المطالبة بحقوق الانسان في دارفور.. أي والله كان المؤتمر الصحفي من أجل الدعوة لنيل حقوق الانسان فإذا به يظهر بعد ذلك كبرنامج استراتيجي لبداية الحرب بكل أنواعها ضد السودان. من هنا ظهرت عملية انهاء الحرب في الجنوب عن طريق الدعوة للسلام وبدأ الحوار عبر التجمعات الدولية بين الحركة الشعبية ووفد حكومة السودان بقيادة د. غازي الذي بدا واضحاً للحركة أنه خصم عنيد لن يستطيعوا أن ينالوا من الحوار معه إلا الحق والمستحق، فطالب قرنق بابعاد د. غازي ووافق المؤتمر الوطني ومن هنا بدأ التنازل. انتقلت بعد ذلك المفاوضات إلى مدينة نيفاشا بكينيا بين الوفدين وبحضور بعض دول المنطقة الاقليمية، واستمرت الأيام والأسابيع وانتهت باتفاقية فرح بها جون قرنق أي فرح، وقد سمعته بأذني يقول عبر الاذاعة البريطانية لمستقبليه: لقد جئتكم بما لم تكونوا تحلمون به - وقد صدق. إذ لم يكونوا يحلمون أن تطأ أقدامهم جوبا ولم يكونوا يحلمون أن ينفردوا بحكم الجنوب ويشاركوا في حكم الشمال ولم يكونوا يحلمون بمليارات الدولارات التي ستصب في جيوبهم الشخصية وأولها مبلغ الستين مليون دولار التي دفعت لهم لاحضار شذاذ الآفاق من أمريكا وأستراليا ولندن وغيرها بدعوى أنهم أبناء الجنوب الذين سيسهمون في بنائه وتنميته، أما الحلم الكبير فهو اعطاؤهم حق تقرير المصير الذي كان من المستحيلات عبر ما يزيد عن الخمسين عاماً لاستقلال السودان. وكان من الممكن أن يكون هذا الحق سبباً في إلغاء الاتفاقية لأنها كانت تشترط أن يدعو الطرفان للوحدة، بمعنى أنها غير ملزمة إذا أخل طرف ودعا للانفصال تسقط الاتفاقية، مع ذلك لم تسقط بسبب التنازلات التي أدركت الولاياتالمتحدة أسبابها الحقيقية واعتبرتها نقطة الضعف في المؤتمر الوطني التي ستنال عبرها الكثير. لقد استيقنت الولاياتالمتحدة من أن المؤتمر الوطني لن يفرِّط في الحكم مهما كلّفه الأمر ومن نافذيه من يقول أنا وبعدي الطوفان، فأخذت تقول لهم افصلوا الجنوب ونحن نكفيكم متمردي دارفور ونمحوكم من قائمة الدول الراعية للارهاب، وانتقلت من تقديم الأماني إلى ممارسة الضغط عبر المحكمة الجنائية ولا اعفاء من الديون ولا خروج من قائمة الدول الراعية للارهاب، والمزيد من دعم المتمردين لتخريب البلد بحجة اسقاط النظام وهو ما ترمي إليه امريكا لتتمكن من تقطيع أوصال هذا البلد الأمين. هذه هي صورة الأوضاع الحقيقية للشأن السياسي، امريكا تستخدم اسرائيل في قيادة الجنوبيين لتدمير السودان وهي تدرك تماماً أن قادة الحركة الشعبية مستعدون لبيع كل أرض جنوب السودان (مائتان وخمسون ألف ميل مربع) لقاء حفنة دولارات لأن تركيبتهم السياسية تصفها العلوم السياسية بأنها مجرد تجمع للمصالح.. ليست حزباً ولا حركة تحريرية، وبالرغم من كل ذلك نجد أن الذين كان لهم دورهم في مفاوضات نيفاشا هم أنفسهم الذين يقودون الحوار في أديس أبابا ولماذا لا يفعلون، ألم يستفيدوا من نيفاشا التي حولتهم من مجرد أعضاء في المؤتمر الوطني إلى وزراء في دولة السودان رجل افريقيا المريض؟ وماذا أنجزوا في اثيوبيا؟ اتفاق وقف العدائيات التي اشتعل أوارها... الحريات الأربع التي أغضبت حتى الذين أرسلوهم مما دعاهم لعقد مؤتمر صحفي ليقول السيد ادريس محمد عبد القادر (لم نسمع عنه في حياتنا الفكرية والثقافية أو السياسية) ان الاتفاق مرهون بتطبيع العلاقات، ثم يجلس في الاذاعة ليبرر سوء الفعل بفلسفة هي أشبه بمنطق (ايساغوجي) الذي أنشأه قبل الميلاد... رأينا أن نعمل بمنهج التوحد وعدم التضاد. ولم يقل لنا لماذا أصلاً يعتبر أن هذه الاتفاقية ستحقق له ما أراد وهل هي بالنسبة لنا تصلح كبداية لحل الخلاف؟ * خبير تربوي وإعلامي