٭ما من صندوقٍ يستطيع أن يصنع سياسياً من شخصٍ هو نفسه ليس بسياسي!! وما من صندوقٍ يستطيع أن يصنع رجل دولةٍ من شخص ليس برجل دولة!! وما من أحد يستطيع أن يصنع شاعراً من شخصٍ هو نفسه ليس بشاعر!! تقول الحكاية : يحكى عنه أنه بدأ حياته راعي غنم، ثم مارس مهنة نحَّاس. كانت مهنته تقوده من قرية إلى قرية ومن حي إلى حي، وهو يصيح «نصلّح الأواني.. نصلِّح الأواني». وعندما لا يأتيه صياحه بزبون.. يحكى أنه كان ينزل من حماره، ويجلس تحت تلك الشجرة ويبدأ العزف على صفارة الراعي التي تعلمها عندما كان راعياً.. ويحكى أنه.. بينما هو في ترحاله من قرية إلى قرية، وهو يصيح: «نصلِّح الأواني» خرجت عليه فتاة في مقتبل العمر، آية في الجمال، كانت الفتاة تحمل دلواً مثقوباً، أرادت له أن يعود كما كان غير مثقوب، كان النحّاسي يحمل سيجارة بين يديه، تركها تشتعل بين أصابعه دون أن ينفث منها دخاناً، وهو يبحلق في وجه فتاة مقتبل العمر الجميلة. ٭ قالت الفتاة له: لتكن سيجارتك أكثر قصراً فأنت عامل. أجابها بهدوء: عندما تكون أمام الإنسان فتاة جميلة، يتمنى أن تكون سيجارته بطول ستة أقدام، أخذ النحّاسي الدلو من فتاة مقتبل العمر وعنى به أيما عناية، وأصبح الدلو يلمع، كيوم ولدته أمه - ولكن ما أن بدأت تستقي به الماء حتى نفذ منه، بكت الفتاة غيظاً، وعادت إلى النحّاسي. ٭ رغم كل الوقت الذي أضعته في إصلاح دلوي، فهو ما يزال يرشح كما كان يرشح! ٭ لعل الشباب يرمون دلوك بالحصا، فيثقبونه، فلماذا تغضبين؟ لقد تعمدت أن أترك فيه ثقباً صغيراً لتعودي إلىّ وأراك مرة أخرى. ٭ ومضت الفتاة، لكن النحّاسي بدأ يحس بالألم يعصر قلبه، تأججت نار حبه للفتاة وكلما اشتد اللهب عظم الألم، نظم النحّاسي قصيدة في ألمه. تغنى فيها لفتاة مقتبل العمر وحبه لها، ثم كتب أغنية ثانية ثم عاشرة ثم عشرين ثم مائة، وهكذا أصبح شاعراً شهيراً. ٭ وخلاف ذلك، تزوجت فتاة مقتبل العمر - آية الجمال - شخصاً اسمه أحمد، ثم طلقته وتزوجت شخصاً ثانياً اسمه موسى، ثم طلقته وتزوجت شخصاً ثالثاً اسمه هارون. ودارت الأيام دورتها، وبينما كان الشاعر يسير في الطريق فإذا بامرأة تقول له: أتستطيع إصلاح دلو؟ والتفت الشاعر ليرى عجوزاً ناضبة مريضة لم يعرها التفاتة وذهب، لحقت به المرأة العجوز وقالت: ٭ أنسيت أيها الشاعر العظيم؟ أنا الفتاة التي تركت في دلوها - يوماً - ثقباً لتعود إليك، أنا فتاة مقتبل العمر التي جعلت منك شاعراً وأحالتك من نحاسي صغير يصيح في الأزقة «أصلِّح الأواني» إلى شاعر كبير تتغنى كل الأمة بأشعاره وأغانيه، أنا صاحبة الدلو ذي الثقب الذي يرشح ولو لم يرشح دلوي، لبقيت نحاساً مغموراً، أنا من صنعتك شاعراً عظيماً. ٭ ضحك الشاعر العظيم وقال: نعم كنت يوماً نحاساً مغموراً أيتها العجوز، إذا كانت قدرتك تصل إلى هذا الحد، وأنك تستطعين أن تحولي الناس إلى شعراء، فلماذا لم تجعلي من زوجك الأول شاعراً؟ أين هي أغاني موسى زوجك الثاني؟ ومضى الشاعر العظيم في طريقه، وبقيت المرأة مسمرة في مكانها، فاغرة فاها لا تدري بماذا تجيب، لم تتمالك مشاعرها إلا عندما هطلت عليها القطرات الأولى من المطر، فأيقظتها. ٭ كانت قطرات المطر تقول: «ما من أحد يستطيع أن يصنع شاعراً من شخص هو نفسه ليس بشاعر».!! ما من أحدٍ يستطيع أن يصنع سياسياً من شخصٍ هو نفسه ليس بسياسي.