استمراراً لملف التعدين الأهلي بولاية نهر النيل الذي طرح عبر ملف قضايا ب «الصحافة» سابقاً وتم فيه استعراض المرارات والصعاب والواقع المؤلم الذي يكابده الممارسون للتعدين الأهلي الذي كان يطلق عليه اسم «التعدين العشوائي» ذهبنا مرة اخرى لاستكمال الصورة من أفواه الجهات المسؤولة بالولاية لاستكشاف ما يدور في مناطق التعدين والمعالجات الأولية بالعبيدية، لنجد الكثير المثير ونشاهده عياناً، ونحمل أوراقنا وأقلامنا مستصحبين ما لمسناه من تدهور بيئي وعمالة أطفال يجلس أندادهم خلف مقاعد الدراسة ويستنشقون هم غبار الطواحين الذي يفري اجوافهم الغضة. ويتعاملون مع مواد كيميائية أقلها خطراً الزئيق الذي يسبب السرطان ويحولهم من الواقع الذهبي لمستقبل رمادي، وإن لم نكن اكثر تشاؤماً نقول انه مستقبل أسود حالك، ولا تعلم عنهم وزارة الشؤون الاجتماعية أي شيء ويقعون خارج نطاق اهتماماتها. وتحدث البروفيسور طلعت عيسى عوض، رئيس لجنة تلوث البيئة والإصحاح البيئي بالمجلس الأعلى للإصحاح البيئي بولاية نهر النيل، عن التعدين الأهلي للذهب بالولاية وتداعياته البيئية قائلاً: بالرغم مما في الذهب من خير كثير للولاية ومواطنيها إذا أحسن استغلاله، إلا أنه يحمل شراً مستطيراً وبلاءً في حالة سوء الاستغلال. ويتمثل ذلك في أن المنقبين الأهليين يستخدمون مادة الزئبق في تنقية الذهب واستخلاصه، وهذه المادة تحمل عدداً كبيراً من المخاطر الصحية، حيث أن استنشاق أبخرتها يؤدي لتلف الرئتين، كما أنها تتسبب في العقم وتؤثر على القوة الجنسية، كما أنها مسرطنة بدرجة عالية، وتتسبب كذلك في تلف خلايا الدماغ، وهي من أهم أسباب سرطان الدم الذي تكلف معالجته اموالا طائلة وزمناً طويلاً وجهدا كبيراً، ولا تظهر آثاره بسرعة مما يجعله قاتلاً صامتاً، وتكون الخطورة مضاعفة في حالة استخدام الأطفال عمالةً، حيث مناعة الأطفال ضعيفة واجهزتهم لم يكتمل نموها. واضاف البروفيسور طلعت أن الغبار المنبعث من طواحين الذهب يتسبب في تمزق الرئتين، وشدد على ضرورة ايقاف العمل عند اشتداد الرياح وعند الاضطرار، فيجب ألا يقف العامل في اتجاه الريح حتى لا يستنشق الغبار، بل في الجانب الذي يجنبه هذه الخطورة، مع استخدام الكمامات والسماعات لوقاية الأذن، واستخدام القفازات لمنع تسرب الزئبق عبر خدوش الجسم للأوعية الدموية. واطلق البروفيسور طلعت عيسى صفارة انذار تجاه خطر وشيك، بقوله إن التلوث البيئي مقدور عليه ولكن الخطورة الفعلية في التلوث الاجتماعي المتمثل في تعرض صغار السن واليافعين للتعطل عن الدراسة وتضخيم الفاقد التربوي، إضافة الى امكانية تعرض هؤلاء اليافعين للاستغلال بكل انواعه من مادي وبدني وأخلاقي. كما قد أدى تعدين الذهب للعديد من جرائم السرقة والقتل وانتشار المخدرات والأعمال الفاحشة. وطالب الجهات المختصة والمحليات بتوفير الحلول اللازمة. وأطلقت حفصة محجوب صالح رئيس لجنة الإصحاح البيئي بمحلية عطبرة ومدير إدارة صحة البيئة بوزارة الصحة، جملة من التحذيرات التي تتفق في مضمونها مع ما ذهب اليه الدكتور طلعت عيسى وقالت إن سوء وسائل نقل وتخزين المياه يتسبب في كثير من الأمراض المعدية، مشيرة إلى أن المياه تعتبر من أسرع وسائل نقل الأمراض، كما لفتت حفصة النظر إلى أن قلة عدد المراحيض بمناطق التعدين والمعالجات الأولية للذهب تتسبب في نقل أمراض التايفوئد والإسهالات بانواعها، وأن مرض الحصبة قد انتشر بين المعدنين في منطقة ابو حمد في فترة سابقة، وتم تطويقه بالمحاجر الصحية وحملات التطعيم. وفي ذات الوقت طالبت حفصة الجهات ذات الصلة بتوفير المراحيض الصحية بأعداد كافية تتناسب مع الأعداد الكبيرة للمعدنين، وعمل أحواض لغسل الذهب بطريقة لا تؤدي لتسربه لباطن الأرض مما يؤدي لاحقاً لاتلاف البيئة. وأضافت متحدثة عن خطورة عنصر الزئبق بقولها إن مدير صحة البيئة الاتحادي وخبيرين بيئيين قد زاروا مناطق التعدين، وتمخض ذلك عن قيام دراسة شملت «70» من المعدنين، ووجدت تربات كيميائية تشمل عنصر الرصاص في دم «48» منهم بسبب استخدام الزئبق. وأشار حسن سلمان معتمد محلية بربر إلى المشكلات التي تسبب فيها التعدين الأهلي، بقوله إن هذا النشاط قد تسبب في وجود كثيف للأجانب بمناطق التعدين، وغير ذلك من المهددات الصحية والبيئية والأمنية التي ساعد فيها اتساع رقعة التعدين الأهلي بالعبيدية، مشيراً إلى اتخاذهم الترتيبات اللازمة لإنشاء سوق جديد تتوفر فيه الاشتراطات الصحية والبيئية والأمنية. واتخاذ إجراءات مشددة لمنع دخول الأطفال دون الثامنة عشرة من العمرللسوق الذي يتوقع أن يشكل مصدر دخل مقدر للمحلية، مشيراً لضرورة الكشف الطبي الدوري على المعدنين. وفي ذات الصدد قالت وزيرة الصحة بنهر النيل سامية أحمد محمد إنها ووفداً من لجنة البيئة بالمجلس الوطني قد زاروا مواقع التنقيب بالعبيدية، وإن التلوث البيئي لم يفاجئها كما فاجأتها عمالة الأطفال وإنها سترفع تقريراً بذلك لوزارة الشؤون الاجتماعية باعتبارها الجهة المسؤولة عن هؤلاء الأطفال. أما مدير دائرة الصناعة والتعدين بالولاية، فقد قال إن السلطات الاتحادية قد خصصت مناطق معينة للتعدين الأهلي حتى لا تحدث احتكاكات بين المعدنين والشركات التي تمنح امتيازا بالتنقيب، بالرغم من أن المواطنين لا يكترثون كثيراً لهذه الحدود ولا يعلمون بها ولا يعترفون بها. واستطرد مدير الدائرة بقوله إن الأضرار التي تنبع من استخدام الزئبق ستجد الحل الناجع قريباً، حيث انه قد تصميم «تربيزة هزازة» تعمل على تنقية الذهب بدون استخدام أية إضافات كيميائية، ولكنها لم تصل للولاية وستعمم قريبا. وقال الحاج عطوة تاج السر رئيس مجلس الإصحاح البيئي بالولاية، إن الصورة قاتمة ولا يوجد أي قدر من الوضوح، بالرغم من أن المحليات التي يمررون عملهم عبرها قد بدأت تتلمس خطوات حثيثة نحو الطريق الصحيح. وأشار إلى أن الإصابة بالأمراض التي يسببها الرصاص لا تكون فورية بل بتراكم كميات الرصاص في الجسم، وقد ظهرت الأعراض على عدد من الحالات. وكانت المفاجأة لنا بوزارة الشؤون الاجتماعية، وقال مدير إدارة البحوث الاجتماعية بها إنهم لا يملكون حالياً أية دراسات يعطون بناءً عليها أية معلومات عن أطفال التنقيب، واستدرك بقوله إن لديهم خطة لهذه الدراسة سيقومون بتنفيذها في الربع الثاني من العام المالي الحالي، إن وفرت لهم وزارة المالية التمويل الكافي. ٭ من المحرر: ٭ أطفال التنقيب عن الذهب يوجدون بمناطق لا يتوفر لهم فيها الأمان، وهم اكثر تعرضاً لكل الأخطار من المتشردين وأطفال التسول. ٭ يتوجب على وزارات الصحة والشؤون الاجتماعية، القيام بالدراسات اللازمة لتدرك وضع هؤلاء الأطفال.