في منتصف عقد التسعينيات زار رئيس بلدية اسطنبول وأحد قادة حزب الرفاه حينها، رجب طيب أردوغان، الخرطوم بدعوة من المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي، الذي ضم المطاردين من حكوماتهم والمتمردين على سلطانها،وعلى هامش حفل عشاء جلست مع زميلي محمد الفاتح أحمد جوار أردوغان يتملكنا الفضول الصحفي لاجراء أحاديث صحفية مع زوار السودان،ولمحنا الأمين العام للمؤتمر الدكتور حسن الترابي قرب ضيفه التركي الذي كان بيده مسبحة ،فسارع الترابي قائلا" حاورا هذا الرجل فسيكون له شأن عظيم في بلاده"،وهو ما حدث بعد سبع سنوات تقريبا من تلك المناسبة. بدأ أردوغان الحياة السياسية الفعلية مع قيامه بقيادة الجناح الشبابي المحلي لحزب السلامة أو الخلاص الوطني الذى أسسه نجم الدين أربكان، وانضم أردوغان لحزب الرفاه السياسي عام 1984 بعد عودة الحياة الحزبية في تركيا من جديد بعدما أغلقت كل الأحزاب في تركيا عام 1980 جراء انقلاب عسكري، وما لبث أن سطع نجمه حتى أصبح رئيساً لفرع الحزب فى إسطنبول عام 1985. وعقب توليه مقاليد بلدية اسطنبول استطاع أن يحررها من طائلة الديون التى بلغت ملياري دولار وحولها إلى أرباح واستثمارات، واتسمت فترة رئاسته بالنزاهة والتواصل مع الشعب والاهتمام برفع أجورهم ورعايتهم صحياً واجتماعياً. وحارب أردوغان العلمانية ومن يتخذها منهجاً له .. قائلا إن العلمانية والإسلام لا يجتمعان في شخص واحد، وعلى إثر ذلك تم توجيه اتهام له بالتحريض على الكراهية الدينية عام 1998 مما تسبب في منعه من العمل في الوظائف الحكومية وبالتالي الترشح للانتخابات العامة. ولم يتمكن أردوغان من خوض الانتخابات عقب خروجه من السجن خاصة بعد حل المحكمة الدستورية لحزب الفضيلة الذى قام بديلاً عنه حزب الرفاه والذى انقسم إلى قسمين هما (المحافظون) و (الشباب المجددون) بقيادة أردوغان وعبدالله جول مؤسسين بعدها حزب التنمية والعدالة عام 2001. وخاض أردوغان بعدها تجربة الانتخابات التشريعية وفاز مُشكلاً بذلك أغلبية ساحقة ومُحيلاً أحزاباً عريقة إلى التقاعد، ولم يستطع ترؤس حكومته بسبب تبعات سجنه، وأناب عنه صديقه عبد الله جول، وتمكن أردوغان بعد ذلك من تولي رئاسة الحكومة بعد إسقاط الحكم القضائي عنه فى مارس 2002. وشكل نجاح حزب العدالة والتنمية في النهوض بالاقتصاد التركي، خلال فترة حكمه الممتدة عقدا من الزمان، أحد أهم عوامل ازدياد شعبية الحزب جماهيريا لذا فقد فاز بثلاث دورات انتخابية، واستطاع الحزب بقيادة أردوغان ورفيقه الرئيس الحالي عبد الله جول عبر السياسات الاقتصادية الإصلاحية التي تمّ انتهاجها - النهوض ببلادهما، وحددا هدفهما البعيد وهو عودة تركيا لقوتها ولمكانتها التي غادرتها قبل نحوتسعين عاما حين سقطت كإمبراطورية تحكم ثلاث قارات. وما أنجزته الحكومة التركية من نهضة اقتصادية بقيادة حزب العدالة والتنمية في ثمان سنوات قد فاق كل ما حققته الحكومات التركية في فترة الجمهورية منذ العام 1923، وهو ما يوصف بالمعجزة الاقتصادية،حيث بلغت المرتبة السادسة عشرة في ترتيب أكبر الاقتصاديات على المستوى العالمي، والسادسة على المستوى الأوروبي، وأصبحت تركيا من بين مجموعة العشرين،وساعد ذلك في تحقيق استقرار اجتماعي حيث وفر نمو الاقتصاد التركي خلال السنوات الست الماضية فرص عمل لما يقرب من 4 ملايين و200 ألف مواطن، وبات سوق العمل الداخلي يستوعب ما بين 700 - 800 ألف عامل سنويا،وقاد ذلك الى تراجع نسبة البطالة إلى رقم من خانة واحدة (9.1%) مما يعتبر حدثًا فارقًا في الوقت الذي تعاني فيه العديد من دول العالم من موجات الأزمة الاقتصادية التي رفعت من نسب البطالة في هذه الدول. استخدمت تركيا في الحقبة "الأردوغانية" الاقتصاد رافعة لاعادة البلاد الى فترة ازدهارها وتحقيق الحلم العثماني القديم"تركيا الكبرى" ،وقد تنامي الدور التركي في المنطقة وفقا لمفهوم العمق الاستراتيجي الذي استنه وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو، الذي عبر عنه في كتابه "العمق الاستراتيجي والمكانة الدولية لتركيا" بضرورة تخطي العامل الديني علي أن يتم بدلا من ذلك تكريس فكرة "أن الدولة التي تجهتد للتأثير من خلال حدودها عبر القوة الناعمة أي الدبلوماسية، هي الوحيدة التي تتمكن من حماية نفسها". وباتت تجربة حزب العدالة والتنمية في السياسة والحكم والممارسة تشكل إلهاما للأحزاب الإسلامية في العالم العربي للقبول بقواعد اللعبة الديمقراطية والارتهان إلى الصندوق الانتخابي وإتباع الوسائل السلمية والمشاركة مع المختلفين إيديولوجيا في الحكم، والحد من تدخل المؤسسة الأمنية والعسكرية في الحياة السياسية، وبناء المؤسسات وسيادة حكم القانون،ونظافة اليد واللسان. لم تحدث هذه النهضة التي تجابه تحديات جمة بالصدفة بل عبر برامج ورؤية واضحة وأهداف محددة وارادة سياسية غلابة،فقد زرت أنقرهواسطنبول في العام 2008 ثم الأسبوع الماضي،فأردوغان رئيس وزراء لا ينام،نعم لا ينام الا قليلا ووزراؤه يتوقعون هواتفه التي تلاحقهم في الثانية والثالثة صباحا لمتابعة تنفيذ الخطط والمهام الموكلة اليهم،ولا يعبر عن سياسة البلاد الخارجية الا رئيس الوزراء ووزير خارجيته والناطق باسم الحكومة،والمسؤولون يدركون أنهم معرضون للمحاسبة في أي وقت، لذا فإن أداء الحكومة تحت رقابة مستمرة،ويجري كل ذلك بلا ضجيج عقائدي ولا شعارات معلقة في الهواء،يتعاملون مع الواقع ببراغماتية،ومصالحة مع الذات والتفاعل مع المحيط الاقليمي والدولي.