ان تنظيم انتخابات حرة ونزيهة فى دولة عالم ثالث تعانى اشكالات بينوية وصراعات داخلية وتحديات خارجية، وغنية بمواردها الطبيعية وبامكاناتها الاستراتيجية ومحط الأطماع الدولية.. يُعد أمراً فى غاية الصعوبة إن لم يكن الاستحالة. خاصة فى ظل نظام عالمى جديد ذي استراتيجيات تدخلية وإشكالات هيكلية واحتياجات متنامية وقضايا متجددة: أزمة مالية، انتشار الأسلحة النووية، تحدي التحول الديمقراطي، ومكافحة الإرهاب.. جميعها يتطلب معالجتها البحث المستمر عن الموارد واستخدام جميع اداوت تنفيذ السياسية الخارجية بشكل متوازٍ . ويعتبر اتفاق نيفاشا ثورة فى اتجاه تحقيق التحول الديمقراطى السلمي بعد ان اكتشف الجميع عدم جدوى استخدام العمل المسلح لإنجازه، ولبناء نظام سياسي تتطلع إليه كافة القوى السياسية يسهم فى حل معضلات السياسة السودانية ويمكن من المشاركة الواسعة للتنظيمات التى تشكو من التهميش.. على الرغم من الاشكالات التى تضمنها، واعتماده على ثنائية معوقة فى بعض الأحيان.. إلا ان معظم القوى السياسية أمنت على بروتكولات الاتفاق باعتباره حلاً لمشكلات البلاد وإقرارها بما يتمخض عنها من تنظيمات ومؤسسات وقوانين تنظم العمل السياسى فى المرحلة الانتقالية. لذلك، يُعد النظام الانتخابى الذي تأسس على خلفية اتفاق نيفاشا من أكثر الأنظمة في المنطقة قبولاً ومرونةً.. وذلك بشهادة القيادات السياسية السودانية نفسها والأمم المتحدة والدول الغربية، حيث وصف رئيس حزب الأمة السيد الصادق المهدى الانتخابات القادمة بأنها افضل انتخابات تمر في ظل النظام الحالي، والافضل على المستويين العربي الأفريقي، من خلال ما توفر لها من مؤسسات وآليات ومراقبين دوليين، وأكد أن برنامجه سوف يبقى النظام الرئاسي للإنقاذ، خاصة نظامي الجمهورية الفيدرالي، كما أكدت الولاياتالمتحدة حرصها على تنظيم الانتخابات على الرغم من التصريحات الامريكية المتضاربة حولها. إلا ان عدم الطعن في حينه حول كافة الملاحظات التي ابدتها الاحزاب وعلى إثرها قررت المقاطعة يعد امراً غير سليم من الناحية الاجرائية. حيث ان قرار تنظيم الانتخابات لم يأتهم بغتة، كما ان قرار مشاركة الاحزاب لم يتخذ من قبل هذه الاحزاب الا بعد عقد عدة اجتماعات داخلية مشهودة لمكاتبها السياسية، تمت فيها تسمية مرشحيهم لكافة الدوائر الجغرافية والولائية ورئاسة الجمهورية، وتم اعتمادهم رسمياً من قبل المفوضية القومية للانتخابات التى وجدت ترحيباً بتشكيلتها الحالية من كافة الأطراف السياسية، الى جانب اجرائهم لحملاتهم الانتخابية، وصرفهم لميزانيات كبيرة وتبرعات المرشحين للحملات الانتخابية .. كل ذلك يأتي نتيجة لاقتناعهم باهمية ونزاهة المشاركة وتفهمهم لمتطابات اتفاقيات نيفاشا. فهذا التحول الديمقراطى المرتقب لم يأتِ منحةً من الحكومة أو ضغطاً من الاحزاب والجماهير على الحكومة، وإنما تنفيذاً لاتفاق السلام الشامل الذي وقعه الشريكان وترعاه مجموعة دولية مؤثرة، الى جانب أن الاستحقاق السياسي الذي تمليه اتفاقية السلام على شريكيه له التزاماته الخاصة والاستراتيجية مهما تعاظمت الاختلافات بينهما، فيجب على الاحزاب الاخرى إدراك ذلك. وان اي اجراء يذهب فى اتجاه اعاقة مسيرة الانتخابات يحسب في اتجاه اعاقة تنفيذ اتفاق نيفاشا نفسه وان جاء من احد الشريكين. ان مقاطعة الحركة الشعبية للانتخابات وتعارض تصريحات قياداتها حول المقاطعة.. يعد من أخطر القرارات زماناً، حيث يؤثر ذلك فى الجدول الزمنى لتنفيذ الاتفاق الذى يتضمن الاستفتاء الذى يحرص عليه اهلنا فى الجنوب ويتطلعون اليه، كما يحرض أحزاباً اخرى على المقاطعة باعتبارها الشريك الاساسى فى الاتفاق والمطلع على بواطن السلطة واسرارها .. مما يفشل أهم بنود الاتفاق «الانتخابات» التى من المفترض أن تأتى بحكومة وطنية منتخبة تشرف على بند الاستفتاء، فاذا كانت هنالك اعتراضات جوهرية بالشكل الذى يجعلها تشك فى نتيجة الانتخابات مسبقاً ونزاهة أعضاء المفوضية، فلماذ لا تتقدم الحركة وكل الأحزاب المعارضة للأجهزة العدلية التى كونتها لإدارة العملية الانتخابية، وإبراز مستنداتها حرصاً منها على المشاركة وتجويد التجربة الجوهرية، لا أن تسمي مرشحيها، وتنظم حملاتها الانتخابية، بل وتهندس تجمع جوبا وتحثه على أهمية تسمية مرشح واحد لإسقاط مرشح المؤتمر الوطنى. وإنما فأجات الجميع، وهي طرف أصيل في الاتفاق، بالانسحاب، فكيف تدير عملية الاستفتاء؟ إذن هذه المقاطعات لا تعكس ضعف المؤسسات الانتخابية التى بنتها اتفاقية السلام والدستور، طالما ان الاحزاب ارتضت شكلها وتكوينها.. والسير فى كل المراحل الانتخابية وآخرها إجراء حملاتهم الانتخابية والمشاركة فى البرامج الاعلامية، الأمر الذى أكدته البعثة الأممية والولاياتالمتحدة والمراقبون الدوليون. وتمت احاطة مجلس الامن بكافة اجراءاتها وأمن عليها باعتبارها مخرجا وللسودان وتطبيقاً للاتفاقية. عليه كشف تمسك المفوضية بحقها في تنظيم الانتخابات في وقتها المحدد 11-13 ابريل2010م ضعف وارتجالية عملية اتخاذ القرار داخل التنظيمات السياسية السودانية، حيث لم تستفد هذه الاحزاب من تاريخها وتجاربها كثيراً، فإن ابتعادها عن ممارسة العمل السياسي المؤسسى، وسيطرة بعض اعضائها على مكاتبها لفترة طويلة شكل سبباً كافياً لجعلها بهذا الضعف، فهل قرار المقاطعة يحفظ حقوق اعضائها ويحترم رغبتهم الحقيقة؟ وهل تمت فيها مراعاة المؤسسية الكافية في مثل هذه الحالات؟ لأن هذا القرار مصيري واستراتيجى، ويعمل على حجب حق الكل «القيادة والمرشحين وجماهير الحزب» في الممارسة السياسية التى تعتبر من اهم غايات واهداف الاحزاب.. ان ما اتاحة النظام الانتخابي من بناء مؤسسات وصياغة قوانين تنظم العملية الانتخابية واجازتها من أطراف حكومة الوحدة الوطنية مع مراعاة متطلبات المعارضة واعتماد رؤاها، كل ذلك يكفي للمشاركة فى الانتخابات لا مقاطعتها .. نعم توجد إشكالات وملاحظات، لكن لا تكون سبباً لادخال البلاد فى أزمة جديدة وهى تتجه نحو الاستفتاء المصيرى فى 2011م الذى يتطلب تضافر الجهود لتشكيل حكومة وطنية تشرف عليه وتخلق علاقات جوار معتدلة مع الدولة الجديدة قائمة على حسن الجوار والتعاون المشترك، ولتعمل سوياً لبناء سودان لما بعد الانفصال. بهذه الأبعاد لا تستطيع حكومة مختلف حولها ذات أزمات متحولة ومنقولة لها من حكومة انتقالية، أن تتمكن بشكل كافٍ من ادارة مثل هذه القضايا الاستراتيجية المصيرية.. إن توقيت وتباين رؤى الأحزاب حول المؤسسات الدستورية التى وافقت على انشائها وتشكيل اعضائها، والطعن فى سلامتها وحياديتها، الى جانب توقيت قرارات مقاطعتها للانتخابات، يُعد مهدداً لسلامة العملية الانتخابية نفسها، ويعكس عجز الاحزاب وضعف مؤسساتها عن اتخاذ القرار السليم، سواء بالمشاركة أو المقاطعة للانتخابات، مما يهدد وحدتها السياسية وتماسكها التنظيمى الذي ينعكس سلبا على البلاد.