رغم كبر عمرها والاحاديث عن الخلل الذي اصاب بعض اجزائها والتهالك البائن في اعلاها وحاجتها للترميم واعادة التأهيل، تظل «عمارة الدهب» بالسوق العربي سيدة جمال السوق والابهى والخالبة للانظار، وفي مبانٍ يتسيد الرجال على محلاتها تكون النساء هن الزبائن الاغلب لهذا السوق، ويعد الذهب زينة المرأة الاولى والتي تسعى دوماً الى امتلاكها، وان كانت تختلف في المجتمعات ومتطلبات الشكل والنوع والحجم، ولكن يبقى هو المطلب الذي تأمل كل النواعم في امتلاك اكبر قدر منه، والذي قد تعود الايام وتتبين الحاجة اليه ليكون هو اول من يسد ثغرات العوز، كما ينظر اليه باعتباره احد اقتصاديات البلد التي شغلت الرجال في الفترة الاخيرة، ليتركوا الاهل والولد بحثاً عن الأصفر البراق بين ذرات التراب في مناطق التعدين الاهلي، بعد أن خرج البترول عن الميزانية، وتحدثت الآراء الاقتصادية عن سد الذهب لهذه الفجوة. والهدوء أصبح جزءاً من تفاصيل ذلك المبنى في الآونة الاخيرة، والكثير من التجار والقليل من الزبائن يطوفون بين الحين والآخر، ومن يسأل ويستفسر ويبيع أكثر ممن يشتري، ولعل ارتفاع اسعار الذهب كانت هي السبب في تنازل الكثيرين عنه كمطلب متكرر، خاصة مع الضائقة الاقتصادية وارتفاع الاسعار، وعلى فترينات المحال تربعت أشكال متنوعة وأحجام مختلفة تدلت خلف الزجاج ليزيد بريقها ذلك الضوء الخافت المنبعث من المصباح الذي وضع في السقف، وبعد وقفة قليلة امام المحل دلفنا الى الداخل حيث كانت صاحب المحل مشغولاً مع احد الزبائن الذى قد وضعت امامه مجموعة من القطع الذهبية، عرفنا فيما بعد أنه يريد شراء «شبكته»، ووقفنا حائلاً بينهما والتواصل قليلاً لنتحدث إلى أيمن عبد الباقي صاحب المحل الذي ابتدر حديثه قائلاً إنه وعلى الرغم من انخفاض اسعار الذهب الا ان حالة الركود مازالت تسيطر على السوق، ومازالت غالبية الزبائن تأتي للبيع، وقليل جداً منهم من يرغب في الشراء، فهذا الركود الذي لازم سوق الذهب منذ وقت طويل أرجعه الى ارتفاع أسعار السلع في السوق الخارجي بقوله إن الذهب سلعة عالمية ولا يمكن التحكم في أسعارها داخلياً، وعندما سألناه إن كانت الكميات الضخمة التي يتم إنتاجها محلياً ذات تأثير واضح على السوق في بلادنا، اجابنا قائلاً بأن شيئاً لم يتغير، فكل تشكيلات الذهب المعروضة على «الفترينات» تأتي من الخارج وبأسعار عالمية، وليس لدينا منتجات سودانية من الذهب على الاطلاق. كان يجلس متأملاً القطع الذي وقع عليها اختياره خاصة أنه لأول مرة يدخل محلات الذهب او كما قال لنا محمد عبد الرحمن الزبون الذي كان جالساً مع صاحب المحل، وتحدثنا اليه قليلا فقال انها المرة الاولى في حياته التي يدخل فيها محل مجوهرات، وانه قليل المعرفة بانواع واسعار الذهب وثقافته فيه ضعيفة للغاية، ولولا ظروف الزواج لما دخل الى محل ذهب، وقد تفاجأ بغلاء سعر «الأطقم»، واضاف محمد مازحاً: «قد افكر في ترك الزواج والغى الفكرة نهائيا، واكتفى بتغيير موديل السيارة بموديل افضل منها. وفي الصالة الخارجية للمجمع كان صوت من ينادون لاستقطاب الزبائن هو الاعلى. وعلى الممر الجنوبي التقينا اعتدال قسم الله التى كانت فى طريقها الى احد التجار الذين تتعامل معهم كما قالت لنا، وكانت اعتدال تحمل بين يديها كمية من الذهب تريد صيانتها فقالت: انا لم اشتر ذهباً منذ اعوام حيث كان سعر الجرام لا يتجاوز ال «40» جنيهاً، ومنذ ذلك الحين لم احضر الى محلات الذهب على الاطلاق الا بغرض البيع او التغيير. واضافت اعتدال ان دخول الذهب الصينى الذي اغرق السوق جعل منه منافساً خطيراً للذهب، خاصة انه يصعب تمييزه من الذهب الاصلي، وفى ظل ظروف الغلاء وارتفاع الأسعار فإن كثيراً من النساء قمن بصرف ذهبهن ولم يستطعن تعويضه الا بالذهب الصيني، وقالت إنها تحتفظ بكمية من الذهب للظروف. وبالرغم الحديث عن الذهب الصيني المقلد يظل للذهب طعم خاص يشير إلى أنه لا يعني الا الذهب. وانت داخل باحة عمارة مجمع الذهب كلما جال بصرك لا مفر من أن يستقر على قطعة ذهب معروضة خلف الالواح الزجاجية لا يمكنك تجاوزها وتظن انها الاجمل، فكل قطعة تتحدث عن تميزها ولها بريقها الخاص، وليس من السهل تمييز «الموضة» في الذهب لأنها شبه ثابتة، مما دفعنا لسؤال أحد عمال المحل علمنا أنه يوصف بالخبير، فسألناه عن اكثر الموديلات شيوعا والتي تطلبها النساء بمسمياتها، فأشار الى إحدى فترينات العرض ليقول ان هذا «الموديل» يعرف باسم «أليسا» المطربة اللبنانية، وآخر تتدلى منه قطع الجنيه السوداني اطلق عليه اسم المطربة السودانية ندي القلعة. ووسط بريق الذهب وتشكيلاته المتفاوتة والمختلفة تقف اسئلة حائرة، فالذهب هو المورد الأول للدولة الآن قبل البترول وغيره من الموارد، وما لاحظناه على ارض الواقع انه بعيد عن اهتمامها على الرغم من ضخامة الثروة التي يوفرها للبلاد، ومازال الذهب حلية في أعناق وأنامل الحسان يتباهين به في السهرات والمناسبات. ويبقى سوق الذهب على حاله وبساطته لا يعبر عن أهمية السلعة التي يحمل اسمها.