كان من نتائج تفتح الوعي لدى طائفة المتعلمين في السودان على قلتها في الثلث الاول من القرن العشرين الميلادي ان سعت الى ضم صفوفها وخدمة مجتمعها وامتها عن طريقين: اولهما طريق الاندية العامة، وثانيهما طريق الجمعيات بشقيها السياسي الوطني قبل وثبة 1924م، والثقافي الادبي الذي اصبح ظاهرة ملحوظة بعد فشل تلك الوثبة، ومثلما اثرت هذه الانشطة في المجالات السياسية والاجتماعية، فقد كان لها تأثيرها في الادب السوداني الحديث، وفي نشأة الحركة النقدية المرتبطة به، وهذا ما نهدف الى دراسته والتعرف على جوانبه المختلفة بقدر الامكان في هذا البحث. (أ) الأندية العامة: تعود اولية الدعوة الى انشاء ناد يaجمع شمل الطبقة المتعلمة لتقضي وقتها فيما ينفع ويفيد بدلا من التهافت على (القهوات والحانات) الى مقال كتبه حسين شريف بعنوان (الى متى نحن واجمون على هذا الحال)؟ ونشرته جريدة (السودان) في عددها الصادر في 21 سبتمبر 1911م، فقد دعا فيه الناشئة الجديدة الى نبذ الكسل والجمود، والاقتداء بالغربيين والمصريين في نشاطهم وجهودهم، وفي (اتحادهم واتفاقهم وراء مصالحهم وترقية شؤنهم ادبيا وماديا) ولعله كان ينظر الى نادي خريجي المدارس العليا بمصر باعتباره مظهرا من مظاهر التكاتف والاتحاد من اجل الصالح العام، فهم يدعو الى قيام ناد على شاكلته (لنجتهد في انشاء ناد وطني يكفل لنا جمع شتاتنا وتوحيد كلمتنا وحفظ دراهمنا وتقويم المعوج من اخلاقنا وآدابنا) على ان البيئة لم تكن قد تهيأت بعد لتقبل هذه الدعوة، كما أن الاوضاع السياسية القائمة لم تكن تسمح بتنفيذها في تلك الآونة، ولذلك فقد مرت سبع سنوات كوامل قبل ان يصبح نادي خريجي المدارس بأمدمان حقيقة واقعة. وقد قّدر لهذا النادي الذي افتتح في صيف 1918م، ان يؤدي (دورا هاما في تاريخ السودان) كما تنبأ رئيسه الفخري المستر سمبسون مدير المعارف آنذاك ، وكان من اهم ما اداه انه بلور ذاتية الخريجين وجعل منهم قوة لها قدرها واعتبارها لدى الامة والحكومة، فقد كان (يمثل الخريجين في كل السودان، وكل ما يدور فيه يجد طريقه بسرعة البرق الى كل انحاء البلاد).. وبذا اصبح الطريق ممهدا لتكوين رأي عام مستنير في كثير من المسائل المطروحة والقضايا المثارة. ولئن كانت ظروف الاستعمار ونوع اللجان التي اوكل اليها امر ادارة النادي آنذاك... وعلى رأسها دائما الرئيس الفخري الانجليزي تفضي بالضرورة الى مسايرة السياسة البريطانية في السودان، بل والى تأييدها صراحة كما نستشف من الحفل الذي اقيم فيه تكريما لوفد السودان العائد من بريطانيا عام 1919م، نقول برغم ذلك فقد ساهم الخريجون المنتمون اليه في مجال النضال من اجل التحرر الفكري عن طريق محاربة التقاليد البالية والممارسات المنافية للدين.. وكان اكبر المساهمين في هذا النضال اعضاء هيئة التدريس الذين وجدوا في طلبة المدارس والناشئين في الاندية تربة صالحة لغرس بذور دعوتهم وتعهدها ، واعتمدوا في نضالهم على سلاح المنطق والجدل العلي وكانوا ينادون بتحرير الفكر وانطلاقه من قيود العادات ورواسب التقاليد الفاسدة، واوهام الخرافات التي ليست من الدين في شيء.. وسنرى وشيكا كيف انبثقت جمعية (الاتحاد السوداني) السرية من بعض التجمعات التي كانت تضمها اروقته.. هذا ، وقد دفع النادي بالحركة الادبية الناشئة وقتذاك خطوات الى الامام ، اذ كان حفيا بالادب والادباء، حريصا على اعطائهم ارحب مجال في الاحتفالات التي كان يقيمها في المناسبات الدينية والاجتماعية، كالاحتفال بالمولد النبوي، وعيد الاضحى، وذكرى الهجرة، ودعوة المبعوثين من بيروت ...الخ، فكان الشعراء يتنافسون في الابداع في هذه المناسبات معبرين عن انفسم ومجتمعهم على نحو تمتزج فيه السياسة بالدين في كثير من الاحيان، هذا الى جانب ليالي التأبين التي عرفها السودان لأول مرة عن طريقه.. وممن حرص النادي على تأبينهم الشاعر محمد عمر البنا، وصحفي السودان الاول حسين شريف الذي كان له فضل الريادة في الدعوة الى انشائه على ما سلف ذكره، بجانب توليه الرئاسة الفعلية لأول لجنة كونت لادارته.. وعلى صعيد آخر فقد عنى النادي بإجراء المسابقات العامة حول الموضوعات التي تهم المجتمع السوداني توعية وتثقيفا، وقد خططت بحيث تكون كل مسابقة لطائفة ذات اختصاص معين، فواحدة للمدرسين، واخرى للمهندسين، وثالثة للقضاة، ورابعة لذوي الثقافة العامة ..الخ. ورصدت الجوائز التشجيعية للبحوث الفائزة، وكانت تلقى ضمن المحاضرات التي يقيمها النادي ويحضرها جمهور غفير، ويعقبها نقاش يتفاوت هدوء وحدة بحسب الموضوع المطروح،وقد ينتقل من بعد الى صفحات جريدة الحضارة، ومن المحاضرات التي قدمت في تلك الحقبة: السودان والعرب لعبدالله عبدالرحمن ، والشعر وتأثيره في النفوس لعبدالله عمر البنا، وآداب الدين الاسلامي لعثمان هاشم، والادب في عصر المأمون لأحمد عثمان القاضي، وتعتبر المحاضرة التي ألقاها الامين علي مدني في منتصف ابريل 1925م، وحمل فيها بعنف على شعر عبدالله محمد عمر البنا معلما مهما في سياق نشأة الحركة النقدية بالسودان، وكان لها اصداء واسعة في محيط النادي او على صفحات (حضارة السودان) في تلك الآونة. وقد امتد الاهتمام فشمل المسرح، اذ تكونت فرقة للتمثيل من بعض الاعضاء اسهمت في تقديم كثير من المسرحيات العربية والمترجمة، نذكر منها: صلاح الدين الايوبي، والفارس الاسود، والعباسة، وعطيل، ما كان معينا في تنمية الوعي الوطني والحس الادبي في آن معا.. وفي مد النادي بريع مادي ينتفع به في تنفيذ مشاريعه المختلفة. وبالطبع فإن نادي خريجي المدارس لم يكن النادي الوحيد في البلاد ابان تلك الحقبة، وان يكن اهم الاندية واعظمها خطرا وابعدها اثرا - فهناك الى جانبه اندية الموظفين التي قل ان تخلو منها مدينة من المدن السودانية الكبرى من قبيل: عطبرة ومدني والابيض، ويؤمها جميع موظفي حكومة السودان من مصريين وسوريين وسودانيين، وقد زودت هذه الاندية (بالمكتبات وآلات التسلية)، وكانت تحيي الليالي الادبية من تمثيل وروايات عربية، حفلات اكثرها لتوديع عظيم مسافر او عضو ، وكنا نستمع فيها الى الخطب والقصائد الشعرية ونعجب ببلاغة قائليها، وهم في الغالب من غير السودانيين، على عكس الحال في نادي الخريجين الذي كانت عضويته قاصرة على السودانيين. ومهما يكن الامر فقد كان هذا كله مما يسهم في ازدهار الحركة الادبية الناشئة، وما يتصل بها من بواكير الحركة النقدية التي اخذت معالمها في الاتضاح والتشكل شيئا فشيئا عبر هذه المرحلة. (ب) الجمعيات السياسية: ما كاد التعليم الحديث في السودان يؤتى اكله في شكل خريجين ذوي تخصصات مهنية مختلفة، يعملون في مجموعات قليلة العدد، متقاربة الفكر والاتجاه، حتى بدأت التبعات الخطيرة للتعليم التي كان المستعمرون يخشونها، اعني نشوء طبقة وطنية مقاومة لحكم الاجنبي كما عبّر اللورد كرومر، تتجسد في الافق ، وكان للتطورات الداخلية كقيام نادي خريجي المدارس وقد وقفنا على نشاطه وتأثيره، والاحداث الخارجية كإعلان مباديء الرئيس ويلسون في اعقاب الحرب العالمية الاولى، وقيام ثورة 1919م المصرية، يد.. طولى في انضاج الحس الوطني لدى الشباب المتعلم، ومن هنا اخذوا يتلمسون الطرق لمقاومة الاستعمار وبث دعوات الاصلاح والتحرر، فكان ان بدأت طلائع العمل الوطني متمثلة في لقاءات وجلسات تجمع بين الزملاء والاصدقاء، ثم في جمعيات سرية اول الامر، علنية في آخره، مع تفاوت في المناهج والاساليب واتفاق في الغايات العامة والهدف النهائي. ولربما كانت الجلسات الخاصة التي بدأت تنعقد في منازل معينة من العاصمة المثلثة، وتضم عددا من طلاب كلية غردون على رأسهم مدثر البوشي - اول الغيث في هذا المجال، فقد كان الحديث يدور في هذه الجلسات ( حول الشؤون السياسية والاجتماعية كل جمعة او عطلة) وتجد اقبالا كبيرا بحيث (تضيق الرحبات بالمجتمعين من الطلبة وغيرهم) اما طابعها العام فكان وطنيا اسلاميا ينحصر في نطاق التوعية والتوجيه دون منهج محدد للعمل السياسي، ولعل مما يزيد هويتها وضوحا ان نقف على الدوافع المحركة لرائدها الطالب مدثر علي البوشي. فقد كان آنذاك يرقب الاحداث السياسية داخليا وخارجيا، ويتابع بيقظة مكر الاستعمار ومظالمه بعد ان تزود بفكر الإمامين المجددين: عبدالرحمن الكواكبي اذ استوعب كتابه (جمعية ام القرى).. وتأثر به، وجمال الدين الافغاني، وكان والده من اوائل الذين تحلقوا حوله بمصر - فهو يقص عليه سيرته ويطلعه على جهوده القائمة على تجديد الفكر الديني لانتشال المسلمين من وهدة تخلفهم، ومواجهة الاستعمار الغربي في مجالي الفكر والسياسة على حد سواء. وقد اعانه التحاقه بالقسم الشرعي حسبما يقول في مزج السياسة بالدين، وبهذا وذاك تمكن من وضع يده على( تلك العوامل الحساسة والدوافع القوية) التي تحرك الشعور وتهز العواطف وتلهب الحماس للدفاع عن الدين والعزة القومية والمطالبة بتراث الآباء، وتجديد العروبة والاسلام. وفي تصورنا ان جلسات التوعية هذه اسهمت بقدر كبير في ازدهار حركة الشعر الوطني المرتبط بالمناسبات الدينية، اذ كانت بلا ريب معينة على بلورة التصورات والافكار، ومحركة للمشاعر والاحاسيس واكبر من هذا فقد كانت تضم عددا من الشعراء الذين برزوا في هذا المجال، ومن بينهم: عبدالله عبدالرحمن وحسن عمر الازهري وعلي نور ومدثر البوشي نفسه، ولعل التشجيع الذي ظفرت به ، والنجاح الذي حققته كانا من وراء سعي رائدها (البوشي) لعقد مؤتمر وطني لطلاب كلية غردون عام 1920م، توطيدا للحركة وتوسيعا لمحورها ودفعا بها الى الامام، الا ان ادارة الكلية، لم تلبث - وقد هالتها هذه النزعة الوطنية - ان قدمته لمحاكمة شهدها زملاؤه بقسم القضاء الشرعي، وبذلك وئدت الحركة في مهدها.. على ان مجموعات اخرى من الشباب كانت قد لجأت الى العمل السري في اوائل العشرينيات وسارت على نهج آخر يمكن تبين معالمه من الطابع العام للمنشورات التي اخذت تصدرها بتوقيع (الشبيبة الناهضة) احيانا و(الاخوان الخمسة) احيانا اخرى، ففيها هجوم صريح على السياسة البريطانية في السودان وتعاطف واضح مع مصر والمصريين. ومع اننا لا نعرف عن هاتين الجمعيتين اكثر من انهما كانتا تصدران المنشورات على النحو السالف، فاننا لا نستبعد ان تكون (الاخوان الخمسة) نواة لجمعية (الاتحاد السوداني) السرية التي كانت ذات نشاط اكبر وتأثير متعدد الجوانب، وذلك استنادا الى بعض اقوال الشهود في محاكمة قادة حركة 1924م، المجهضة ولأن المعروف ان مؤسسي هذه الجمعية كانوا خمسة. ولعل مما يدعم هذه الفرضية علمنا بأن (الاتحاد السوداني) انبثقت عن ائتلاف بين جمعية سرية كانت قائمة فعلا وقوامها طلاب من كلية غردون،