وبين جمعية ادبية كانت تمارس نشاطها بمدينة امدرمان ويربط بين اعضائها تآلف قائم على الصداقة الوطنية التي وطدتها اجتماعات نادي خريجي المدارس. فعن التقاء هاتين الجمعيتين تكونت جمعية (الاتحاد السوداني) وخططت نشاطها السري القائم على نظام الخلايا، واستطاعت في مدى زمني وجيز ان توسع من نطاق عضويتها، وان تمد في مجال عملها بحيث يشمل عددا من المدن والاقاليم السودانية. اما التاريخ الذي تكونت فيه هذه الجمعية فثمة تضارب كبير في تحديده بين المصادر، فبعضها يذهب الى انها انشئت عام 1924م، سابقة لجمعية اللواء الابيض، وبعضها الآخر ينص على انها تكونت بعد اعتقال اعضاء جماعة (اللواء الابيض) وبالتحديد في اغسطس 1924م، برئاسة احمد امين المصري وعضوية الضباط السودانيين بالمعاش ، ويرجع مصدر ثالث تكوينها الى مفتتح عام 1921م، ويتفق مصدران على انها تكونت عام 1920م، وان كان ثانيهما اكثر تحديدا اذ نص بأن تأسيسها تم في مفتتح ذلك العام. ويرجع هذا التضارب الواضح في تصورنا الى السرية التي التزمت بها هذه الجمعية في اعمالها ونظمها الادارية، والى انصراف مؤسسيها عن تسجيل مذكراتهم - عدا واحد سنشير اليه - مع ضرورتها وعظيم اهميتها، ومع ذلك فان الحقائق والوقائع التاريخية التي سيرد بعضها في هذا التناول تجعل محاولة ارجاع تكوينها الى عام 1924م، - قبل او بعد وثبة اللواء الابيض - شيئا يستحيل التسليم به، زيادة على ان احد مؤسسي هذه الجمعية، اعني سليمان كشه، يحدد بجلاء انها (بدأت اعمالها في منتصف 1921م، ثم اخذت في التنظيم والانتشار حتى بلغت اوجها سنة 1923م، وبهذا يحسم الخلاف في الجانب. ولا يهمنا ان نفصل القول في النشاط السياسي الذي قامت به الجمعية عن طريق المنشورات او الكتابة في الصحف المصرية وفقا لشعارها: (السودان للسودانيين والمصريون اولى بالمعروف).. وانما يهمنا ان نتعرّف على جوانب نشاطها الادبي والثقافي وما كان له من تأثير في نشأة الحركة النقدية بوجه خاص. والحق ان هذه الجوانب كانت جزءً اصيلاً من الخطة التي اختطتها الجمعية لتحقيق هدفها السياسي، فلا شك ان مما يعين على تحقيق هذا الهدف المتمثل في التحرر من الاستعمار ان ينتشر نور الوعي بين طبقات الشعب بحيث تتمكن من التخلص من رواسب التخلف والجهل وتأخذ بأسباب التقدّم والرقي، وان تعبأ مشاعرها واحاسيسها من جانب آخر - رفضا للاستعمار وحبا للوطن وايمانا بالحرية، ومن هنا تكون الجهود الثقافية والاعمال الادبية وسائل ضرورية الى جانب العمل السياسي المباشر. ومما مكن للجمعية ان تنهج هذا النهج بنجاح وايجابية اضافة الى انبثاقها عن التقاء جمعية ادبية صرفة بجمعية سرية من الطلاب - ان مؤسسيها الخمسة (كانوا جميعا من الادباء والنقاد والمثقفين الاجتماعيين). كما ان معظم الذين انضموا اليها كانوا على هذه الشاكلة ، فمن بين مؤسسيها واعضائها العاملين، الشعراء: توفيق صالح جبريل وتوفيق احمد البكري ومكاوي يعقوب ومدثر البوشي وحسن عمر الازهري وشفيق فهمي مينا وعلي ارباب ومحمد عبدالله العمرابي، والشاعر المغني خليل فرح بدري، ومن بينهم النقاد والكتاب: الامين علي مدني ومحمد عثمان عيسى (ابن رجاء) والبدري الريح وسليمان كشة. ولذلك فقد انصرف الجهد الاكبر للاتحاد لتنظيم المسرحيات الادبية، ونظم القصائد والاغاني والاناشيد الوطنية وتلحينها ونشرها، وقد تمكن بعض اعضائها من نشر نتاجهم الشعري الثائر في الصحف المصرية، ومن هؤلاء توفيق صالح جبريل.. وفي الجانب التعليمي اسهمت الجمعية في تهريب عدد من طلاب كلية غردون لتلقي تعليمهم الثانوي في المؤسسات التعليمية المصرية. وبجانب كل هذا فقد كونت شعبة الجمعية بامدرمان تنظيما ادبيا اسمته (الرابطة الادبية السودانية).. والى هذه الرابطة يرجع الفضل في نشر كتاب (نسمات الربيع) الذي تضمن القصائد التي القاها الشعراء السودانيون في احتفالات المولد لسنة 1342ه/1923م وقد كان لهذا الكتاب بعد وطني مهم، الى جانب بعده الادبي، وذلك لما تحمله قصائده داخل الاطار الديني المعهود من مشاعر وطنية محترمة. بل ان بعض الذين جمع بينهم الانتماء اليها استطاعوا بعد توقف نشاط الجمعية إثر احداث 1924م، ان ينشروا كتاب زميلهم الراحل الامين علي مدني (أعراس ومآتم) عام 1926م، فكان اول كتاب يندرج في اطار النقد الادبي بالسودان. ولعلنا لا نبعد عن الصواب ان ارجعنا الى جمعية الاتحاد والرابطة الادبية التابعة لها فضل تشجيع الامين وتعضيده في نشر آرائه النقدية الجريئة، المناهضة للاتحاد الاتباعي الذي كان غالبا على الشعر السوداني، وذلك عن طريق المحاضرة بنادي خريجي المدارس والنشر المتواصل بجريدة (حضارة السودان). هذا، وقد نشأ في صفوف الجمعية حوالي سنة 1923م، جناح ينادي بالعمل السافر ضد الانجليز، ولما فشل في اقناع الاعضاء الآخرين بوجهة نظره عمل على تكوين جمعية اللواء الابيض التي قادت الوثبة المعروفة ، ورغم ما حدث من اختلاف في الرأي ووسائل العمل الوطني ومجالاته ، فقد حظيت (اللواء الابيض) بعطف الاعضاء الذين واصلوا كفاحهم عبر (الاتحاد السوداني)، وبدا ذلك جليا فيما قدموه من اعانة و قاموا به من رعاية لأسر الشهداء والمسجونين بعد اخماد تلك الوثبة. ولا حاجة بنا الى تأكيد ايجابية الدور الذي قامت به جمعية (الاتحاد السوداني) في مجال العمل السياسي بمنشوراتها ومقالاتها، او في مجال العطاء الادبي والنقدي انتاجا وتشجيعا بعد الذي تقدم، لو لا ما لاحظناه من ان بعض الدارسين يقصر التأثير الايجابي على جمعية اللواء الابيض ويصم جهود الاتحاد السوداني بالسلبية، وفي هذا بعد لا يخفى عن حاق الانصاف، فحقيقة الامر ان الفرق بين الجمعيتين يكمن في اسلوب العمل السياسي او وسيلته، فهنا إيثار للتحفظ والتقية وتركيز على التثقيف والتوعية، وهناك إيثار للاندفاع والمواجهة وتركيز على المطلب السياسي المباشر، ولكن الغاية المبتغاة واحدة، والجهود المبذولة، برغم اختلاف ميادينها ونتائجها، مخلصة وايجابية في الحالتين. ج - الجمعيات الأدبية والثقافية: يمكن اعتبار (الغرفة الأدبية) التي اسسها ابراهيم محمد حمو بمنزله بمدينة سواكن عام 1905م، اول صالون ادبي عرفه السودان في تاريخه الحديث، فقد استطاع هذا الرجل الذي كان يعمل آنذاك بشركة التلغراف الانجليزي ان يجمع في هذه الغرفة بين آن وآخر، وعلى مدى زمني امتد الى سنة 1924م، عديدا من المهتمين بالثقافة والادب واللغة لعربية من مواطني المدينة او الذين عملوا فيها لبعض الوقت، ومن بينهم الشيوخ: البشير الفضل، وسيد احمد الفيل، واحمد عثمان القاضي، والشاعران: عبدالله حسن كردي وعبدالله عبدالرحمن، فكانوا (يهتمون اولا بمعرفة الاحداث المحلية والعالمية،ويتدارسون اللغة العربية في نحوها وصرفها وبلاغتها، ويتطارحون الاشعار ويتبارون في حفظها، وينتقدون الشعراء، ويفضلون بعضهم على بعض، ولكن هذا النشاط الرائد في بابه كان ضعيف الخطر قليل الاثر بحكم مجاله المحدود وطبيعته الشفاهية. وفي عام 1914م، انشأ بعض المصريين العاملين بمدينة سنار كالشاعر محمد حافظ الامين والقاضي احمد التجاني اول جمعية ادبية عرفتها البلاد باسم (روضة الشعر).. فكان لها اثر ادبي حسن، وقد تجلى نشاطها اساسا فيما كان ينشره اعضاؤها من قصائد ومقالات على صفحات جريدة (رائد السودان)، التي كان لها فضل كبير في رعاية الحركة الادبية الناشئة. على ان الاتجاه لتكوين الجمعيات الثقافية والادبية الخالصة لم يظهر على نحو واضح في اوساط الادباء والمثقفين السودانيين الا بعد فشل الانتفاضة الوطنية عام 1924م، فنحن لا نعرف شيئا عن نشاط الجمعية السرية التي كونها بعض طلاب كلية غردون في اوائل العقد الثاني من هذا القرن، وهي على كل حال لم تلبث ان اتجهت كما رأينا الى العمل السياسي باشتراكها في تأسيس جمعية الاتحاد السوداني، وبالمثل فإن (الرابطة الادبية السودانية) التي انشأتها شعبة الاتحاد بامدرمان كانت تمارس نشاطها الادبي في نطاق الاهداف السياسية العامة لتلك الجمعية. اما بعد اجهاض حركة 1924م، وما استتبعه من اساليب الكبت والقهر التي اصطنعها الاستعمار في مواجهة الشبيبة المتعلمة.. فقد انصرفت الجهود بعد اجتياز مرحلة الشعور بالاحباط نحو الثقافة بتعميم والادب بتخصيص، لا هربا من الميدان وانما استكمالا لوسائل المواجهة، واستعدادا لمجابهة اكثر وعيا واثبت قدما واطول امدا، ومن هنا فقد نشأت الجمعيات الادبية في نطاق الحي والحارة، وبين زملاء الدراسة ورفاق المهنة، وقد اتجه بعضها للتمثيل او للمطالعة والمراجعة وبعضها الآخر للخطابة والمناظرة وقرض الشعر. وسرعان ما ازدهرت هذه الجمعيات بمنأى عن الرقباء، ثم تطورت الى ما يشبه المدارس الفكرية بعد ان توثقت بين اعضائها عرى الاخاء والزمالة، وتوثقت بينهم وبين اساتذتهم من جهة اخرى صلات لعلها اقوى من صلات الرحم والدم ، فجعلوا يعيشون مع الاحياء في اجوائهم، ويرجعون من اجل القدامى قرونا طويلة الى الوراء ، وكم كان يلذ لهم ان تتعصب كل مدرسة لاستاذها وتعقد له دون غيره لواء الزعامة والقيادة الفكرية في عصره، وان تختلف مع المدارس الاخرى ، وهم يعنفون في تعصبهم واختلافهم حول عمالقة الفكر واساطين الادب في الشرق والغرب، وكان من المظاهر المألوفة ان ترى اكداسا من المؤلفات العربية والانجليزية، واكواما من الصحف تشغل اكبر حيز من غرفة الشاب السوداني وتستنفد جزءاً كبيرا من دخله، ومن الطبيعي ان يلتهموا في البداية كل ما تقع عليه اعينهم وتصل إليه ايديهم دون تمييز او تفضيل، ولكن التجربة والمران على ايدي المرشد الاكبر - الزمن - اهلتهم للاختيار، وان لزم ان نعترف بالفضل لذويه فإنما نسجله لجنود مجهولين من محترفي النقد الادبي في انجلترا ومن هواته في مصر ، فبارشاد هؤلاء، وبميل الفطرة السليمة تتلمذ المثقفون السودانيون لرجال حرية الفكر والمدافعين عن حرية الانسان. ولعل اهم هذه الجمعيات واجدرها بالذكر في مجال الاثر الادبي ثلاث جمعيات، نشأت جميعها وترعرعت بمدينة امدرمان، وهي: جمعية الهاشماب، وجمعية ابي روف، وجمعية خلوة الكتيابي، فقد كان لكثير من المنتمين الى هذه الجمعيات الثلاث والمساهمين في انشطتها قراءة ونقدا ونقاشا - جهود طيبة في المعترك الادبي والنقدي سواء على صفحات الصحف والمجلات او على منابر الاندية في الحقبة ما بين اواخر العشرينيات ونهاية الثلاثينيات، والى ما بعد هذا التاريخ في حالات قليلة، ولا شك في ان اشتراكهم الفعّال في هذه الجمعيات كان ذا اثر كبير في تكوينهم الثقافي واتجاهاتهم الادبية مع وضع العوامل الاخرى في الاعتبار. اما جمعية الهاشماب فقد كان من ابرز منشئيها وروادها محمد احمد محجوب وعبدالحليم محمد واحمد يوسف هاشم ويوسف مصطفى التني ومحمد عشري الصديق، وقد كوّن بعضهم في مطالع الثلاثينيات (جمعية الفنون والآداب)، وبلغ اسهامهم الادبي والنقدي ذروته على صفحات مجلتي (النهضة السودانية) و (الفجر) التي كان لهم يد طولى في اصدارها وتحديد وجهتها الفكرية والادبية بوجه عام. واما جمعية ابي روف فقد كان من اهم مؤسسيها والعاملين من خلالها: عبدالله ميرغني وخضر حمد وحسن احمد عثمان واسماعيل العتباني واحمد خير والهادي ابوبكر وابراهيم يوسف سليمان، ومن بعض المنتمين اليها تكونت (جمعية ود مدني الادبية) عام 1936م، فكان لها عطاؤها الادبي المميز ودورها الوطني المشهود. وفي مجال المقارنة بين هاتين الجمعيتين يعتقد الشاعر احمد محمد صالح الذي ربطت بينه وبين كثير من اعضائهما صداقة ولقاءات عديدة وان تقدّم عليهم في السن والتجربة (ان مدرسة ابي روف كانت اوسع اطلاعا واعمق فكرا واكثر يقظة، واعضاؤها الى النقد اميل، ولقد حوربت حربا شديدة ولم تتح لها الفرص التي اتيحت لمدرسة الموردة (يعني الهاشماب)، ومع ذلك فقد كان اثرها في التوعية السياسية اقوى واوضح (بينما ضمت جمعية الهاشماب او مدرسة الموردة كما ينعتها (شباناً ذوي مواهب خلاقة،) وقد تفوقوا في هذا المجال على اقرانهم من مدرسة ابي روف، ولئن صعب التسليم بهذا الحكم على اطلاقه فلابد من وضعه موضع الاعتبار لصدوره عن شاعر ذواقه عاصر الجمعيتين واعضائهما واعمالهما عن كثب، وقد اصاب كبد الحقيقة عندما انتهى الى ان جماعة الهاشماب قدمت عطاء اكبر في مجال العمل الادبي. اما الجمعية الثالثة التي كان مقرها خلوة الكتيابي بامدمان فقد اقتصر جهدها في المدى الزمني القصير الذي عاشته على الجانب الادبي وعلى الشعر في الغالب الاعم، ولعل ذلك راجع لاتجاه مؤسسيها وخلفيتهم الثقافية. فقد كان قوام هذه الجمعية ثلاثة من شباب المعهد العلمي، هم: التجاني يوسف بشير ومحمد عبدالوهاب القاضي الذين لم يمتد بهما العمر بعد انشائها الا قليلا، ومحمد عبدالقادر كرف، اضافة الى شبان آخرين كعقيل احمد عقيل، الدكتور فيما بعد - ممن كانوا يحضرون ندوات الجمعية ويجمعهم مع روادها حب الادب والولع بالشعر، ولقد كان لبعض رواد هذه الجماعة - بجانب نشاطهم الشعري الدائب - اسهام حسن في مجال الكتابة الادبية والنقدية على صفحات (النهضة السودانية) و (الفجر) و (ملتقى النهرين) ومجلة (امدرمان) وما اليها من صحف تلك المرحلة ومجلاتها. واخيرا فلعل الصورة التي جهدنا في رسمها وتفصيل قسماتها لدور الاندية والجمعيات السياسية والادبية في نشأة الحركة النقدية السودانية - قد اتضحت بجلاء في اطارها العام، وذلك وفقا لمعطيات المصادر الاصيلة، وهي صورة تشهد في مجملها لهذا الدور او الاثر بأنه كان ايجابيا وكبيرا في تلك الحقبة الباكرة من تاريخنا الحديث.