نعت وسائل الإعلام أمس المذيع الكبير عبد الرحمن أحمد، وتألمتُ لوفاته وترحّمتُ عليه، وذكرت بعاطفة «طلته» فى قسم المنوعات بالإذاعة بين الفينة والأخرى، لأن زوجته الأستاذة المذيعة سعاد أبو عاقلة كانت معنا فى المنوعات، وكان رئيس القسم فى ذلك الوقت «بداية عام 1973م» هو الأستاذ محمد سليمان المذيع والإعلامي المعروف الشجاع المنصف الذى لولاه لأكلتنا بعض ذئاب الإذاعة. أذكر عبد الرحمن أحمد بشعر رأسه غير الحليق لأن «الخنفسة» كانت هى موضة الوقت، وجسمه العملاق، ولونه الأخضر الشديد الخضرة، وساعده المفتول، وقد كان راسخاً فى الإذاعة، وممتلئاً بأم درمان وبأنه ابن الشاعر العظيم ونائب ناظر حنتوب وعضو مجلس السيادة أحمد محمد صالح، وأخ مذيع ال «بي. بي. سي» الشهير صلاح أحمد زميل القاص العالمى الطيب صالح، وشاعر «أنا الأغرونى بالجنة جعلت غرامهم سنة». ويذكر السودان كله طريقة عبد الرحمن أحمد فى الأداء الإذاعى، ولن ينسى سامعو راديو أم درمان لازمته المعروفة :«نشرة الأخبار يقرأها عبد الرحمااان أحمد»، وسيبقى مسجلاً له فى سجل الذكرى العطرة دعاؤه المسجل بعد الآذان :«اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد». وكنت أشعر أن عبد الرحمن أحمد كان مستقراً وآمناً بالإذاعة، ولم يكن الاستقرار والأمان لمن يعمل فى الإذاعة فى بداية سبعينيات القرن الميلادي الماضي أمراً هيناً، فقد كنت أرى صراعاً محتدماً قائماً على الشللية والانتماء الأسري وإحساس قدامى الموظفين بالخوف والتوجس من كل قادم جديد، خاصة إذا كان خريجاً جامعياً، إذ معظم الكوادر بالإذاعة كانت من غير الجامعيين الذين يفتخرون على أصحاب الشهادات بأنهم «هم الفنانون وأصحاب المواهب». وقد كان الجنون بالشهره فوق ما يتصوره المتصورون! دخلت الإذاعة فى يوم واحد أنا والأخ معتصم فضل المدير العام الحالي للإذاعة، والأستاذ حديد السراج والأستاذ الخاتم عبد الله والأستاذ كمال محمد أحمد ... وكنت ومعتصم فى الدرجة «كيو» وهى درجة الخريج الجامعي الجديد، والخاتم وحديد فى الدرجة أظنها «بي» لأنهما كبار وعندهما خدمة سابقة فى مكان آخر ما. بينما كان كمال محمد أحمد خريجاً ثانوياً. واستقبلنا ودربنا الأستاذان المرحومان أحمد قباني ومحمد خوجلى صالحين.. وتبنانا صالحين وكان يطلق علينا لفظ «المذيعين الجدد». وأذكر من وصايا صالحين الطريفة لنا أنه قال: «وصيتى لكم أن تبتعدوا مؤقتاً عن المكرفون وألا تعملوا وألا تظهروا، لأننى أعرف الناس هنا وهم حاذقون فى الفتك بمن يخافون من منافسته». وأشار إلى شاب نابه يجلس تحت ظل شجرة البوفيه فقد عقله من سخرية منافسيه المنظمة ضده!! وكان قسم المنوعات خصباً، إذ يتبناه كبار الفنانين والشعراء، وفيه جلست مع إبراهيم العبادى وسيد عبد العزيز ومحمد على الأمى وحدباى وعمر البنا، وكانت تزورنا بانتظام الراحلة الفنانة عائشة الفلاتية ربما بسبب وجود شاعرها السر محمد عوض معنا فى القسم، وكذلك كان يزورنا الموسيقار العظيم اسماعيل عبد المعين، وضحكنا مرة لما قال اسماعيل عبد المعين فى حضور عائشة الفلاتية: يا أولادي ما تشوفوا عشة دى حسع كدى، والله زمان كانت حلييوة»! فردت عليه بشيء من الخجل «الله يجازيك يا سماعين»!! ولفت نظري أحمد قباني الذى كان ذا صوت ما سمعت له مثيلاً إلى الآن، وهو إلى ذلك يعمل فى الدراما والأخبار والمنوعات والمسرح والثقافة، وكل شيء فى شئ من عدم الانتظام والبهدلة شأن كل العباقرة، وكان فى نطاح دائم مع زوجته عفاف صفوت التى تشاركه المكتب، وكنت لا تكاد تراه يضحك إلا إذا كان معه العبادي أو تحية زروق!! وكان عبد الرحمن أحمد وسعاد أبو عاقلة لا يخافان من هذا الجو العاصف المخيف، وكنت أعجب لهما وبهما.. أما أنا فمكثت سبعة أشهر وهربت إلى أول وظيفة وجدتها فى شمال نيجيريا، وعدت إلى السودان بعد عشر سنوات لأعمل فى المركز الإسلامي الأفريقى/ جامعة افريقيا. وليتنى لم أفعل، فبقدر ما عانيت مكر «الإخوة فى الفن» لم أجد مكراً أشد فتكاً «من مكر الإخوة فى الله»!!