عبر السنين، وفي كل بقاع العالم، تشوب علاقات العمل أشكال متعددة ومتفاوتة من الصراع بين المخدم والمستخدم (أو الأجير) - حين هضم الحقوق - غض النظر عن طبيعة أي منهما أو طبيعة العمل الذي يجمع بينهما. وتختلف مطلوبات كل فئة عن الأخرى.. من هذه الصراعات ما قامت به جموع العاملين الامريكيين من أجل تأمين حقوقهم، والسعي لتشكيل تجمعات نقابية تجمعهم على صعيد واحد وتقوي من شوكتهم.. وانتقلت هذه الظاهرة إلى أوربا.. وتأرجحت ما بين مد وجزر ساد تلك العلاقات. وفي العام 1886م قرر العمال في مدينة شيكاغو الاحتشاد والاضراب مطالبين بتحسين شروط العمل والأحوال المعيشية للعاملين، فاصطدمت بهم الشرطة وأطلقت عليهم النار فمات بعضهم، سجن آخرون وبمحاكمة، تم اعدام بعض القادة. في مؤتمر عالمي للعمال ضم ممثلين من أنحاء العالم أعلن اليوم الأول من مايو في كل عام عيداً عالمياً للعمال، يخلد ذكرى أولئك المناضلين والشهداء. في السودان، لم يختلف الأمر كثيراً عما ذكرنا، فكونه كان يرزح تحت نير الاستعمار، فقد أخذت المقاومة تشتعل على كل الأصعدة وفي كل الفئات ومنها فئة العمال، التي كتبت تاريخها بأحرف من نور وخلق الله من رحم هذه الطبقة العاملة عبر تاريخها وعصر نضالها الذهبي قادة أفذاذ قويي الشكيمة، انخرطوا في بحر الكفاح المرير الملاطم مع بقية القادة الوطنيين فقادوا سفينة البلاد رغم ما تقاذفها من أمواج التسلط والظلم والارهاب - عبر الحقب - بعزيمة واصرار ووجهوا دفتها إلى شواطيء آمنة في تجرد كامل. اضطلع قادة العمال منذ عهد الاستعمار بمسؤولية العمل على احقاق الحياة الحرة الكريمة لكافة أبناء الشعب السوداني، ثم بقضايا الحركة النقابية وبخاصة ما يخص الطبقة العاملة مما قادهم إلى الاصطراع مع السلطات الحاكمة بمختلف العهود، فلاقوا في سبيل ذلك ما لاقوا من عسف وتشريد وسجون وموت. بوعي عالي كانوا يطمحون إلى خلق كيانات جامعة تقوّي وحدتهم وتعلي كلمتهم، فرفعوا المذكرات وعمدوا إلى تنوير قواعدهم إلى أن أعلن ميلاد «هيئة شؤون العمال» واستمر العمل النضالي وتبلورت النقابات التي ازدهرت بكل فروعها وناهضت الظلم حتى في الحكومات الوطنية والأنظمة الشمولية تحت راية «اتحاد عام نقابات عمال السودان» ذلك الوعاء الجامع والعملاق ذو الاسم الذي لازال ذكره (بما يعنيه في تلك الحقبة) له وقع وصدى عميق يملأ صدور الشرفاء بالاعتزاز ويصيب مفاصل الظالمين بالرعب. واكتسب ذاك الاتحاد هيبة وصيتاً ومكانة ضخمة على المستوى الاقليمي والقاري وحتى العالمي فهو عضو فاعل فيها وشكل القادة النقابيون حضوراً مؤثراً في تلك المحافل وخلقوا علاقات استفاد منها الكادحون في شكل كورسات تنويرية وعملية في سبيل رفع حركة الانتاج.. ووقفوا على تجارب الآخرين. الآلاف المؤلفة من العاملين في كل مكان كانوا مثل خلية النحل، والعقلية السودانية استطاعت أن تخلق انجازات من العدم كل هذا في نسق تام ونظام محكم يشمل المراكز وحتى المحطات الخلوية. قال لي العم أحمد إنهم انتظموا في محاضرات تثقيفية وقانونية كان المشرف اللصيق عليهم «الحاج عبد الرحمن» وكان أحد مُحاضريهم.. وهذا يذكرنا بما كتب عن الزعيم الحاج عند وفاته من أنه (صاحب بصمة واضحة في تثقيف العمال) وغيره كثيرون. تكثفت الدورات التدريبية والندوات الثقافية والسياسية الوطنية.. وانتشرت أندية العمال فكانت منابعَ للمناشط المختلفة وانبثقت الجمعيات التعاونية لتوطيد التكافل والتغلب على المصاعب المعيشية وأسهم العمال بفعالية في الأنشطة الرياضية لاعبين واداريين (الحاج عبد الرحمن عبد الله عبيد - نموذجاً).. بهذا العمل المكثف تمكن القادة النقابيون من معايشة واستقراء الواقع ومجرى الأحداث والإلمام بما لهم وما عليهم والحفاظ على حقوق العاملين وضبط ايقاع كيفية المطالبة بها، ولم تخذلهم قوى العاملين «الطبقة العاملة السودانية العملاقة».. كان يكفي أن يعلن اتحاد العمال اضراباً فتشل الحياة تماماً أو يعلن مسيرة أو مظاهرة.. فتخرج الحشود - طوعاً - وتهدر بهتافات ترتج لها أعمدة الأرض - في تلاحم عجيب لم نره يتكرر منذ أن تم التنكيل بهؤلاء القادة الأفذاذ الخالدين الذين ختموا مسك الختام - الفترة الخالدة الذهبية لتاريخ الطبقة العاملة - كما أحسب - بعام 1971 اتحاد العمال آنذاك والنقابات العمالية كانت ذات دور بارز في تكوين وفي معاضدة اتحادات وكيانات أخرى، مثل اشتراكهم في المجلس العام للنقابات الذي ضم بجانبهم اتحادي الموظفين والمعلمين - ثم في اضراب البوليس - وحدة المزارعين في تكوين الاتحاد النسائي السوداني.. ولا ننسى جهدهم في عقد فصول محو الأمية ...الخ.. وقدحهم المعلّى في كل القضايا الوطنية العامة (بيع حلفا وتهجير أهلها - نموذجاً) والقضايا الاقليمية والدولية (العدوان الثلاثي على مصر.. المؤامرة على نظام لوممبا، ثورة الجزائر ...الخ) وكل هذا نجد أن الزعيم الحاج عبد الرحمن قد سجله شعراً في قصائد شهيرة. أما اليوم فللأسف الشديد تعيش النقابات في أضعف حالاتها.. مرافق القطاع العام تم التخلص من أكثرها واهمال المتبقى منها بقصد انهاكه ومن ثم خصخصته كذلك ولم يسلم قطاع السكة الحديد العملاق من هذا التردي.. هذا الذي كان عصب الحياة في السودان كما مشروع الجزيرة اهترأ وتفرق أهله أيدي سبأ وعطبرة التي كان اسمها الرنان ملء القلب والبصر والآذان والتي كانت تضم أكبر نقابة لعمال السكة الحديد في السودان ويحسب لها ألف حساب.. عطبرة التي حملت اسم «عاصمة الحديد والنار» أصبحت لا تذكر إلا مصحوبة بعبارة «يا حليل زمن الحاج والشفيع» العامل السوداني الخلاق صار يوصفه القادة الحاليون لاتحاد العمال الحالي بأنه «كسلان» تماماً كما جعل آل يعرب المواطن السوداني موضع سخرية ووصموه بالكسل. بل أن العجب ليتملك الشخص حين يحدث لقطاع عمالي ظلم أو صيف ونسمع أو نقرأ أن اتحاد العمال (يدين) أو (لا يقبل) هذا المسلك! ونعلم ونسمع ونقرأ أن عمالاً وموظفين ومعلمين وأطباء ومعاشيين لم يستلموا أجورهم أو استحقاقاتهم المتراكمة لشهور!!؟ وفي هذا الشأن أعيد ذكر ما حكاه لي المحاسب السيد/ السهيلي عمر الشيخ حين ذكر لي أنه ذات مرة جاءت عربة وأخذتهم (محاسبين في بنك السودان) من منازلهم بعطبرة - ليلاً - ولم يكونوا يدرون السبب فانزعجوا. ولما وصلوا مقر البنك أخبروهم أن رواتب العمال قد تأخر صرفها قليلاً.. وكان اتحاد العمال يتابع هذا الشأن.. وأن الحاج عبد الرحمن أبرق مدير عام السكة الحديد منذراً بأنه (إذا لم يتم الصرف للعمال غداً صباحاً، فسيكون لنا معكم شأن آخر). لاحظ لم يقل بعد شهر أو حتى أسبوع!! وقد كان! فقد استُدعى هؤلاء المحاسبون وتم الصرف صباحاً. وغير هذه الأمثلة كثير وسجلنا منها الكثير أصحابها لازالوا أحياء. بقى أن نقول في ذكرى أول مايو العالمي هذا.. ان اتحاد العمال الحالي لم يعد يحتفل به.. بل جعلوا يوماً بديلاً آخر في أغسطس. يقول الزعيم الحاج في احدى قصائده: يا حادي الركب جِد السير في عَجَل صوت الكفاح دوى للحق يدعونا يا من أسأتم إلى العمال في نفر سلوا المعارك تنبئكم بماضينا نقودها في صراع نحن نعرفه لنأخذ الحق قسراً من أعادينا فلم تنل أمة حقاً بلا تعب ونحن بالشعب للعلياء ماضونا وفي قصيدة أخرى يقول:- فهيا أيها العمال أنتم مقصدي طلبي فثوروا وارفعوا الانتاج ما الانتاج باللعب وثوروا أيها الزراع شقوا الأرض للحبّ ثوروا واحرقوا الأشواك بالنيران واللهب دعوا أطفالكم تجني ثمار الغرس من ذهب فثوروا نبني مجتمعاً به نرقى إلى النسب