دعت وزارة الثقافة الأسبوع المنصرم لفيفاً من الكتاب والمثقفين والمهتمين لحضور تدشين عدد من اصدارات الوزارة، واختارت مكاناً فسيحاً أنيقاً لهذه المناسبة هو قاعة اتحاد المصارف بشارع الجمهورية، والتي رغم اتساعها ضاقت بالمدعوين. ويبدو أن الوزارة أرادت أن تخرج العمل الثقافي من أضابير الروتين والبروقراطية المكتبية بتبنيها لهذا التقليد الراقي الذي لم نعهده إلا في بعض دور النشر المحترفة. وبسبب أن التجربة جديدة على الوزارة، فإن ظهور بعض الخلل يعتبر أمراً طبيعياً، ولكن لابد من الالتفات له في المرات القادمة حتى تتحقق كل الأهداف المرجوة من هذا العمل. فمثلاً، كان البرنامج طويلاً لدرجة الملل وكان من المستحسن أن يتم اختيار كتاب واحد من كل جهة من الجهات التي قامت بالنشر ليتم الحديث عنها ويضُمن أي حديث عن بقية الكتب الأخرى في كاتلوج، لتستفيد الوزارة من الوقت في مؤتمر صحفي مفتوح للصحفيين والكتاب الذين أموا الأمسية. ثانياً: عامل الزمن كان غائباً تماماً في البرنامج، إذ لم يحدد زمن لكل متحدث من المتحدثين الذين زاد عددهم عن العشرة وكان الأجدى في مثل هذه الحالات أن يكون للجلسة رئيس بدلاً من الاعتماد على مقدم البرنامج، وللأمانة فقد قامت الأخت المكلفة بالتقديم بدورها وأوفته حقه، لكن مع عدم وجود من يدير الجلسة كان الحبل على الغارب مما أغرى بعض المتحدثين بالاسترسال حتى تنبهت المنصة فأوعزت لمقدمة البرنامج بالتدخل. بلغ عدد الكتب التي تم تدشينها في تلك الليلة أحد عشر كتاباً، وهذا عدد كبير لبرنامج تدشين في ليلة واحدة، علماً بأن البرنامج خصص متحدثين لكل كتاب، المؤلف وشخص آخر، هذا الازدحام الذي كاد أن يفقد هذه الأمسية الثقافية ألقها وبدأ وكأن الوزارة كانت تهدف للاعلان عن منجزاتها وليس الترويج لهذه الكتب. ان التدشين عادة ما يقتصر على كتاب واحد فقط، ليحظى الكتاب ومؤلفه بالترويج الاعلامي المطلوب، فعملية التدشين أساساً تهدف للترويج الاعلامي. ثانياً: بالطبع التدشين تستفيد منه الجهة الناشرة للدعاية لنفسها، سواء كانت هذه الجهة مؤسسة حكومية أو داراً تجارية للنشر، وهذا عمل مشروع خاصة إذا كان الكاتب مشهوراً أو كان الكتاب الذي قامت بنشره مهماً، فتستثمر ذلك في الدعاية لنفسها مستفيدة من وجود الحضور النوعي الذي دعى للمناسبة ووجود أجهزة الاعلام. ومن التقاليد التي تحرص عليها دور النشر في مثل هذه المناسبات أن يقوم الكاتب بتزيين الكتاب بتوقيعه للحضور. حتى نكون منصفين ولا نغمط الناس حقها، فإن الوزارة كسبت من هذا العمل النوعي وهي في حاجة لمثله في ميادين أخرى وعموماً كانت الأمسية ناجحة ويكفي العدد الكبير من الحضور الذين ضاقت بهم القاعة والذين تمت دعوتهم ليشهدوا هذه الفعالية الحية التي ذكرتنا بليالي الثقافة أيام زمان. سأختم هذه الملاحظات بالتنويه سريعاً لكتابين من الكتب التي حوتها قائمة التدشين، الأول: من قائمة المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون والثاني: من قائمة مجلس تطوير وترقية اللغات القومية. الكتاب الأول هو معجم المؤلفين السودانيين (1510-2010) القسم الأول وهو من تأليف البروفسير قاسم عثمان نور، والذي جاء في ثلاثة أجزاء اختصت بالعلوم الانسانية، وأشار المؤلف إلى ان القسم الأول خصصه للعلوم الانسانية بكل فروعها وتعريفاتها المختلفة، وسيكون القسم الثاني الذي تأجل العمل فيه للعلوم البحتة. لوصف أهمية هذا العمل سأقتبس ما جاء في التصدير الذي قدم به الأمين العام للمجلس القومي للثقافة والفنون الكتاب «... يتميز هذا المعجم بأنه أول اصدارة سودانية وثقت لأعمال المؤلفين السودانيين منذ عهد السلطنة الزرقاء 1405 وحتى العام2010». يقع الجزء الأول في 489 صفحة، واشتمل على تصدير ومقدمة وما يشبه التمهيد عن الحركة الفكرية والثقافية في السودان عبر الممالك والعصور والحقب وكشاف للمؤلفين في نهاية كل جزء من الأجزاء الثلاثة. كما أشار المؤلف للمجهودات السابقة في هذا المضمار. أشار المؤلف في مقدمته إلى المعايير التي اتبعها في تحديد من هو «المؤلف» الذي يريد التوثيق له؟ وحدده بأنه الشخص الذي كتب وأصدر كتاباً واحداً على الأقل. ويقول المؤلف انه وجد ان هذا الشرط مجحفاً في حق الكثيرين من الأدباء والمفكرين الذين عرفوا بانتاجهم الأدبي شعراً ونثراً وقاموا بنشره في الصحف اليومية والمجلات الثقافية ولكن لم تصدر لهم كتب، وقال بالنسبة لهذه الفئة فلم يلتزم بشرط الكتاب الواحد الذي حدده كمعيار للمؤلف. كذلك استبعد الرسائل الجامعية إلا إذا كانت منشورة ككتاب، والأوراق العلمية والبحوث والدراسات الأدبية التي نشرت في المجلات الثقافية والدوريات العلمية وأوراق وبحوث المؤتمرات. إذا كان المعيار الذي وضعه مؤلف الكتاب قد حدد لنا من هو المؤلف، فإن التوثيق لهذا المؤلف لا يكتمل إلا بسيرة ذاتية مختصرة له، وحتى لا يترك الباب مفتوحاً ليكتب بعض المؤلفين نصف صفحة عن سيرته ويكتب البعض الآخر عشر صفحات، كان لزاماً أن يضع مؤلف المعجم معياراً يضمن به الحصول على معلومات أساسية ؟؟/ عن المؤلفين، وهي المعلومات التي عادة ما نجدها في الوثائق الرسمية وعادة ما تأتي في صدر الصفحة الأولى لأية سيرة ذاتية يكتبها الشخص عن نفسه مثل: تاريخ ومكان الميلاد، التعليم، المهنة، الوظائف التي تقلدها، ثم هناك بعض المعلومات الهامة إذا كان للمؤلف نصيب منها، كالجوائز، إذا كان قد حصل على جوائز محلية أو عالمية، أو ترجمت بعض مؤلفاته للغات عالمية أو إذا كان قد حصل على تصنيف على المستوى المحلي أو الاقليمي أو العالمي، كأن يكون أحد مائة مفكر أو عالم أو كاتب إلخ... إلخ بحيث لا تتعدى السيرة الذاتية صفحة واحدة حتى يكون هناك توازن في هذا الجانب، أما المؤلفون الذين لم يتمكن من الحصول على معلومات عن سيرتهم الذاتية، فلا تثريب عليه في ذلك. ولا شك أن أستاذنا يدرك أهمية التعريف بالمؤلفين، لذلك نجده يبادر إلى الاعتراف بهذا النقص لدرجة أنه قال كان متردداً في دفع الكتاب للمطبعة، إلا أنه في النهاية توصل إلى قناعة بأن هذه الطبعة أولية ويمكن استكمال النقائص التي تصاحب مثل هذه الأعمال الكبيرة في الطبعات اللاحقة. أهمية هذا المعيار (السيرة الذاتية المحددة بصفحة كأقصى حد) يبعد مؤلف المعجم من الأهواد ومن تهمة أنه اهتم بأصحاب الشهرة والشخصيات المهمة كما وأنه - أي المعيار - يساوي بين المؤلفين في فرصة التعريف. فمثلاً سيرة الطيب صالح التي بلغت عدد الصفحات المخصصة لها اثنين وثلاثين صفحة، جاء المؤلف بما كتب عنه في الصحف ما بعد الرحيل وغيره، وهو أمر لم يتبعه مع آخرين مثله، كذلك أشار إلى انتمائه القبلي وأحسب أن هذا لا يستقيم في مقام كهذا، فالطيب مصدر فخرنا لنا جميعاً كسودانيين، والاشارة إلى القبيلة في هذا المجال بالذات اضافة جانبها التوفيق بحق أديبنا الكبير الذي أعلم من خلال معرفتي به عندما كان بالدوحة مدى اعتزازه بسودانيته، فهو رمز قومي لكل السودانيين. ومن أمثلة الاختلال الذي أوجده غياب المعيار في التعريف بالمؤلفين ما جاء في سيرة الامام الصادق المهدي ومصدرها موسوعة القبائل والأنساب للمرحوم البروفسير عون الشريف، ويبدو أن المؤلف لم يحرر المعلومات التي استقاها من المصادر أو كتبها أصحابها لتناسب موضوعه، وردت هذه الفقرة «اختلف مع عمه الهادي المهدي وانشقت طائفة الأنصار ما بين مناصر للهادي ومناصر للصادق» هذه المعلومة ليست بذات أهمية في هذا المقام. كما ورد التالي «اختير إماماً للأنصار» ولكنه لم يذكر السنة التي أختير فيها فأصبحت معلومة ناقصة.. مثال آخر على هذا الخلل: في سيرة ضياء الدين بلال أتى المؤلف على ذكر الكتب تحت الطبع وأفلام وثائقية فإذا كان مسموحاً أن تذكر الكتب التي تحت الطبع، فهناك مئات المؤلفين الذين لديهم كتب تحت الطبع ولم ترد ضمن مؤلفاتهم. قصدت من هذه الأمثلة أن أوضح أهمية المعايير في مثل هذا العمل وقبل ذلك الصرامة في تطبيق المعيار. بلغ عدد المؤلفين في الأجزاء الثلاثة ألف وثمانمائة، مرتبين وفقاً للطريقة الألفبائية، وبلغت عدد صفحات الجزء الأول: 489 صفحة، والجزء الثاني: 564 صفحة، والجزء الثالث: 492 صفحة، حجم كبير 25 في 20. ورغم الملاحظات التي أشرنا إليها فانها بدون شك لا تقلل من أهمية هذا العمل الكبير والذي تستحق عليه وزارة الثقافة والأستاذ الدكتور قاسم عثمان نور وكل من ساهم في هذا العمل الشكر. الكتاب الثاني هو: لغات السودان، مقدمة تعريفية. تأليف: الأمين أبو منقة محمد (بروفسير) وكمال محمد جاه الله (بروفسير) هذا الكتاب هو الأول في السلسلة التي بدأ مجلس تطوير وترقية اللغات القومية اصدارها للتعريف باللغات السودانية. وجاء في التصدير الذي استهل به الأستاذ ابراهيم يحيى الكتاب «ان مجلس تطوير وترقية اللغات القومية كجهة مسؤولة عن رعاية اللغات القومية السودانية يتوسل بالعلم لجمع هذه اللغات وينطلق في ذلك من حقيقة أساسية مهمة وهي ان التداخل الحاصل بين المكونات المختلفة للمجتمع السوداني يمكن تعزيزه من خلال التعريف باللغات التي يتحدثها أهل السودان في شرقه وغربه وشماله و«جنوبه» يقع الكتاب في اثنين وسبعين صفحة حجم صغير (20*14) ويحتوي على ثلاثة فصول، الفصل الأول يتناول الخريطة اللغوية للسودان، والفصل الثاني: مدخل إلى اللغة العربية والسياسات اللغوية في السودان، أما الفصل الثالث فكان عن المناطق اللغوية في السودان، هذا بالاضافة إلى التصدير والمقدمة وخريطتين أحدهما توضح الكثافة اللغوية في السودان والثانية توضح لغات جنوب السودان، وملحق عن لغات السودان (مواقعها التقليدية وتصنيفها). أحد القضايا الهامة التي تناولها الكتاب قضية الخلط بين اللغة واللهجة فنجد كثيراً من الناس في السودان يعتقدون أن اللغة لابد أن تكون مكتوبة ولها أبجدية ولها قواعد، وأن يتحدثها عدد كبير من الناس، وبهذا الفهم تصبح اللغة العربية هي اللغة الوحيدة في السودان، وما عداها عبارة عن لهجات. التعريف العلمي يعرف اللغة بأنها «أي منظومة لغوية لها ألفاظ وقواعد مستقلة تصلح وسيلة للتخاطب والتفاهم بين أي عدد من الجماعات تعيش سوياً أو متفرقة في زمن واحد أو أزمان مختلفة» (ص5) ويوضح المؤلفان هذه النقطة بمثال يقرب الفكرة - وهو عندما يتحدث شخصان ولم يفهم أحدهما كلام الآخر فإنهما يتحدثان لغتين مختلفتين بغض النظر إذا كانت أي من اللغتين مكتوبة أو غير مكتوبة، منتشرة أو محدودة، أما إذا تحدث شخصان نمطين من الكلام متشابهين مع وجود بعض الاختلافات النطقية واللفظية ومع ذلك فهم كل منهما كلام الآخر فانهما يتحدثان لهجتين للغة واحدة. فمثلاً تقول لهجة البقارة ولهجة الشايقية في داخل اللغة العربية، ونقول لغة الداجو، ولغة البجا وهكذا. المعلومات التي وردت في الكتاب عن لغات السودان أشارت إلى أن الاحصاء السكاني الأول في عام 1956 قدر عددها ب113 لغة، وفيما بعد قدرت احصاءات أخرى العدد ب132 (قائمة اثنولوج) وأبان المؤلفان أن الوصول للعدد الدقيق للغات السودانية ليس بالأمر السهل وذلك لعدد من الأسباب عددها المؤلفان. الكتاب رغم صغره لكنه احتوى على معلومات مهمة عن اللغات التي يتحدث بها أهل السودان. الجدير بالذكر ان هذه السلسلة التي صدر منها حتى الآن ثلاثة من هذه الكتيبات أولها هذا الكتاب وكتيبان آخران هما لغة النوبيين (المحس) ولغة الزغاوة قصد منها التعريف بهذه اللغات، وأن هذه الكتيبات أعدت بلغة مبسطة لفائدة شريحة الأشخاص غير المتخصصين وعامة الناس، وهي تحوى معلومات عن اللغة والمجموعة التي تتحدثها وعلاقتها بما جاورها من لغات وبعض الكلمات المفتاحية في اللغة مثل القاء التحية والأعداد الحسابية، والضمائر المستخدمة، والأسماء الشائعة للأشخاص في الحيز الثقافي لهذه اللغة، اضافة إلى بعض الأمثال والحكايات الشعبية التي تخص أهل اللغة. وان كانت هناك من كلمة نختم بها هذا العرض المختصر لهذا الكتاب فإننا نكرر الشكر لوزارة الثقافة ولمجلس تطوير وترقية اللغات القومية الذي يتحمل مسؤولية الاهتمام بهذه اللغات السودانية التي تذخر بتراث يعتبر مكوناً هاماً من مكونات الثقافة السودانية وللمؤلفين البروفسير الأمين أبو منقة والبروفسير كمال جاه الله.