تمرُّ البلاد هذه الأيام بأزمة اقتصادية بالغة الحدة وشديدة الضراوة، يضع من هولها كل المراقبين السياسيين وعلماء الاقتصاد أياديهم على قلوبهم خوفاً من المآل الذي قد تؤول إليه البلاد.. فلأول مرة في تاريخ السودان تعود الميزانية إلى البرلمان مرةً أخرى بسبب العجز قبل أن تكمل نصف العام.. وللمرة الأولى منذ استقلال البلاد يتضاعف سعر الدولار أمام العملة الوطنية أكثر من 100% في أقل من ستة أشهر.. وتتضاعف أسعار السلع الاستهلاكية الضرورية بنصف تلك النسبة «50%» في ذات الفترة.. وهي المرة الأولى أيضاً التي تصل فيها نسبة التضخم الاقتصادي إلى بضع وعشرين بالمائة خلال ثلاثة أشهر.. وحال كهذا يؤكد أنّ الأوضاع تمضي نحو الأسوأ بسرعة تزايدية، للدرجة التي تشرع فيها الحكومة بجدية في تقليل عدد الدستوريين إلى النصف أو أقلّ من أجل تخفيض الصرف والإنفاق الحكومي، وهي المرة الأولى أيضاً منذ مجيء الإنقاذ التي نرى فيها الحكومة تتعامل بجدية مع تخفيض الجهاز التنفيذي والدستوري.. بعد أن عهدنا في المرات السابقة أن يتم الإعلان مع بداية تشكيل كل حكومة جديدة بأنّها ستكون أقلّ من سابقتها.. ويأتي التشكيل الوزاري وتوزيع المناصب الدستورية ليؤكد عكس ما كان يُروَّج له.. فتأتي الحكومة أعرض وأكبر وأضخم وأكثر ترهلاً من سابقتها.. وفي آخر تشكيل وزاري قيل أنّ الحكومة القادمة ستكون «حكومة رشيقة» تسهل حركتها وإدارتها، ولكنّها جاءت بعد مخاض عسير انتظر فيه الحزب الحاكم الحزبين الكبيرين لمشاركته الحكم.. وبعد أن استيأس من حزب الأمة.. كوّن مع الحزب الاتحادي الديمقراطي «الأصل» والأحزاب المستأنسة حكومة ضخمة ومترهلة قارب فيها عدد الدستوريين ألفاً من المناصب التي يحتاج كلّ منصب فيها إلى أموال طائلة لا تحتملها موازنة الدولة العليلة حتى عندما كانت في أوج قوتها في العهد البترولي والذي لم تُحسن الحكومة استخدامه بالصورة المُثلى.. دعك من هذه الفترة التي فرغت فيها الخزانة من العملات الأجنبية للدرجة التي جعلت التجار والسماسرة يضاربون في العملة الوطنية حتى فقدت قيمتها تماماً أمام الدولار.. ولم تجد كل الإجراءات التي اتخذتها الجهات الرسمية في تقليل سعر الصرف أو على أقلّ تقدير التحكم في سعر الجنيه مقابل الدولار، فأصبح ينقص في كلِّ يوم مقابل الدولار رغماً عن أنف الإجراءات الحكومية.. حيث تعتقل تارةً تجار العملة وتودعهم تحفظياً في السجون.. وتارةً أخرى تضخ كميات كبيرة من العملات الصعبة خصماً على احتياطي البنك المركزي عبر البنوك والصرافات، ولكنّ السوق يلتهم كلّ دولار يردُ إليه وكأنه لا يشبع من شدة جشعه.. وتارة أخرى تتخذ الدولة سياسات تحفيزية برفع هامش بيع العملة الوطنية بنسبة يحددها بنك السودان بالنظر إلى آليات السوق.. فلم تفلح كل تلك السياسات في كبح جماح السوق وشراهته للدولار.. وأخيراً قرر البنك المركزي تعويم سعر الجنيه ليصبح موازياً لسعره في السوق السوداء.. ويبدو أنّ هذا الأمر لم يفلح هو أيضاً في تقييد الارتفاع في سعر الصرف وفشل الجنيه، ويبدو أنه غرق تماماً في هذا البحر الهائج المتلاطم الأمواج.. حيث بدأ بسعر صرف رسمي 4.9 جنيه للدولار.. ووصل في آخر الأسبوع الفائت إلى 5.5 جنيه للدولار. ومن المؤكد أنّ كل هذه الإجراءات هي محاولات مستميتة من الدولة لإيقاف التدهور في الاقتصاد الوطني.. وهي محاولات باءت وستبوء بالفشل.. لسبب بسيط ومعروف.. وهو أنّ الانتعاش الاقتصادي لن يتم إلا برفع معدلات الإنتاج الزراعي والحيواني.. وزيادة معدل الصادرات الوطنية.. وهو ما لم تتجه إليه الدولة على الأقل في هذه الفترة العصيبة التي جعلت كل همومها مركزة على سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني.. ونسيت أو تناسيت أنّ القطاع الزراعي يعاني هذه الايام عدم وجود مدخلات الإنتاج.. وقد حذَّر رئيس اتحاد المزارعين قبل يومين من احتمال فشل الموسم الزراعي بسبب عدم وجود مدخلات إنتاج بجانب نقص التمويل ووجود أعداد كبيرة من المزارعين في السجون بسبب الإعسار.. بجانب شح الأمطار في بعض المناطق.. وبالطبع فإن كل تلك العوامل خصم على موارد الدولة التى باتت شحيحة، بل وأصبحت الأزمة الاقتصادية مستعصية على الحلول إلا بحدوث معجزة في زمن ما عادت فيه معجزات. ومن المحاولات التي تقوم بها وزارة المالية، فإنه من المتوقع صدور قرار برفع الدعم عن المحروقات.. وهو القرار الذي من شأنّه أن يزيد الطين بلة.. ليس على المواطنين فحسب.. بل على كل قطاعات الإنتاج.. فالقطاع الزراعي ليس كله قطاعاً مطرياً «رغم حاجة القطاع المطري للجازولين في موسم الحصاد».. فهنالك القطاع المروي الذي يحتاج إلى الجازولين في تحضير الأرض وفي سقايتها وعند الحصاد.. لذلك فإنّ هذا القرار المرتقب سوف يؤثر بصورة سلبية على الناتج الوطني الإجمالي.. وبالتالي على خزينة الدولة.. رغم أنّ الحكومة تعتقد أنّ هذا القرار سوف يعود عليها بأموال سهلة.. تدخل خزينتها من البيع المباشر للمحروقات بالأسعار الجديدة.. هذا غير تأثيره السلبي على المواطنين.. فقبل أن تُعلن الزيادات تابع الناس الظلام الذي عمَّ مدينة الفاشر لمدة أسبوعين لعدم وجود الجازولين.. والمعروف أن فاشر السلطان أبو زكريا ومعظم مدن كردفان الكبرى ودارفور غير مرتبطة بالشبكة القومية للكهرباء، وتعتمد اعتماداً كلياً على الجازولين في توليد الطاقة الكهربائية عبر مولدات ضخمة لا تكفي حاجة كل المدن طوال ساعات اليوم. أمّا الإجراءات التي قال وزير المالية إنّه سوف يتخذها لتقليل تأثير زيادة أسعار المواد البترولية على المواطنين.. مثل زيادة مرتبات العاملين بالدولة.. فهي إجراءات محدودة الأثر.. لأنّ نسبة العاملين بالدولة تقل عن 20% من جملة عدد السكان المنتجين والمساهمين في الدورة الاقتصادية.. والمعلوم أنّ السودان بلد زراعي تتراوح نسبة المزارعين فيه ما بين «60% 70%» من جملة عدد السكان.. وبالنظر الى الظروف الضاغطة في الولايات حيث الإنتاج الزراعي الفعلي.. نرى أن معظم أولئك المزارعين نزحوا إلى العاصمة بحثاً عن الخدمات من علاج وتعليم وظروف حياة أفضل لهم ولأسرهم.. وهم بالطبع ليسوا مؤهلين مهنياً للعمل في العاصمة موظفين أو عمالاً مهرة.. ولا يملكون أموالاً لدخول عالم التجارة.. لذلك أصبحوا يعملون في مهنٍ هامشية تدر عليهم القليل من المال الذي بالكاد يسدُّ رمقهم ويبقيهم على قيد الحياة.. وهي مهن لا تنفع البلاد ولا تدخل في الناتج القومي الإجمالي.. وهم اليوم يعانون أشدّ المعاناة.. وينظرون بأمل إلى أبنائهم الذين أدخلوهم في مؤسسات التعليم.. لعلّ وعسى أن ينصلح الحال بعد تخرجهم وتوظيفهم.. وهذا يقودنا إلى الحديث عن العطالة.. وما أدراك ما العطالة.. حيثُ أصبحت الجامعات تُخرِّجُ عاطلاً بدرجة بكالريوس.. ويظل بعد تخرجه يبحث عن مصاريفه لدى ولي أمره.. والدولة تقف مكتوفة الأيدي تجاه هذه المحنة الإنسانية والمجتمعية.. وتقول إنّها لا تستطيع أن تستوعبهم في الجهاز الحكومي بسبب الترهل الذي حاق بالخدمة المدنية.. رغم أنّ التوظيف واحد من خمسة واجبات تقوم بها الدول تجاه مواطنيها «التعليم، العلاج، التوظيف، الأمن وسيادة القانون».. ومن القصص المحزنة في هذا الشأن اعتراض الدكتور حسن عبد الله الترابي على المبادرة التي قام بها وزير المالية الأسبق المرحوم الشريف حسين الهندي.. الذي بادر باقتطاع جزء من موازنة الدولة «ألف جنيه حينما كان الجنيه السوداني يساوي 3.3 دولار»، لتوظيف العطالى، وسمى ذلك البند «بند العطالة».. وذلك في فترة الديمقراطية الثانية.. ولكن النائب البرلماني وقتها د. حسن الترابي اعترض على ذلك البند، وقال إنّه تبديد للمال العام وسعياً من الوزير لاستقطاب المواطنين لحزبه.. ولكن الشريف الهندي رد عليه قائلاً: «إن العمل حق لكل مواطن، وإن من واجبات الحكم الرشيد أن يوفره له، خاصة أن كثيراً من الأسر في السودان تسعى إلى الاستثمار في أبنائها عن طريق التعليم، لأنه يعود عليهم بالنفع والفائدة»، مذكراً بأن بعض الدول تنفق على العاطلين من أبنائها أموالاً بصفة راتبة تحت بند الضمان الاجتماعي، بل أكثر من ذلك تتكفل بإسكانهم وتعليمهم وعلاجهم. وقد نجح ذلك البند الذى سمي ببند الهندي في فتح كثير من البيوت، وأنقذ كثيراً من الأسر من الفقر والعوز. وتمرُّ الأيام وتتقادم السنين ويصل الدكتور الترابي الى الحكم على ظهر دبابة.. فيعمل على تجنيد آلاف الشباب في الخدمة العسكرية الشعبية «الدفاع الشعبي».. ويقدم أكثر من عشرين ألفاً إلى الجنوب للقتال.. ويقبل ما رفضه ذات يوم.. وهي انتهازية سياسية تقودنا للمناداة بضرورة تثبيت المبادئ الأخلاقية في العمل السياسي.. وقد نجح الهندي وقتها في التفريج عن «كربة» الأسر التي وظّف أبناءها عبر «بند العطالة».. ولكنّ الأسر السودانية التى قدم أبناءها إلى محرقة الجنوب لم تتلق حتى العزاء في ابنائها، لأنه لا عزاء في الشهداء كما قيل.. والأسر السودانية اليوم تنظر بحسرة لفلذات أكبادها وهم يتخرجون في الجامعات ليجلسوا تحت ظلال الأشجار.. أو يمارسوا بعض المهن الهامشية، أو يضيق بهم الحال فينحرفون عن جادة الطريق بالتدخين وتعاطي الكحول والمخدرات.. والوطن ينظر الى البنود المعطلة والأيادي القادرة على العمل ولا تجد العمل.. والأراضي الخصبة الشاسعة تجلس بوراً تنتظر من يفلحها. ومع ذلك فإنّ هذا الحال رغم سوءاته ليس نهاية المطاف.. ولا يجب أن يتسرب اليأس إلى قلوبنا طالما أنّ هنالك عروقاً تنبض في أجسادنا.. فاليأس هو خاتمة الحياة الإنسانية.. وليس بعد اليأس إلا الموت.. والتاريخُ يحدثنا عن شعوبٍ كان حالها أسوأ من حالنا.. ومع ذلك نهضت ووجدت لها مكاناً تحت الشمس.. لكنّها لم تنهض بالفُرقة والشتات بل باتحاد كلمتهم وتآزر إرادتهم. إنّ هذا الحال يستوجب من الجميع.. حكومةً ومعارضةً.. قيادةً وشعباً.. أن يقفوا وقفة صلبة لإدراك هذا الحال الاقتصادي الذي وضع الوطن على حافة الهاوية. فالحكومة وحدها لا تستطيع أن تخرج البلاد من براثن هذه الكارثة الاقتصادية.. والشعب وحده لا يستطيع أن ينتج ويعمل ما لم توفر له الحكومة الظروف والعوامل المساعدة على الإنتاج.. لذلك يجب التوافق على «برنامج إنقاذ وطني» يمسك بأيدي البلاد ليرفعها عن هذه الوهدة القاتلة.. وينقذ شبابنا من الضياع والتمزق بين العطالة وزيادة المحروقات وزيادة تكاليف الحياة. وبعد فإن الضرورة تقتضي أن نتمعن كثيراً في التجارب التى عايشناها.. لكي نعمل على إعادة صياغة مجتمعنا بالصورة التي تمكنه من الوصول إلى الحكم الراشد الذي نرتضيه جميعاً، بعيداً عن المزايدات والصراعات التى تعطلت بسببها كثيراً مسيرة تقدمنا.. وإن لم نفعل ذلك فنظل على حالنا هذا نأكل القلق ويأكلنا الفراغ.