القضية التي لم تجد حقها من التداول والنقاش على كافة المستويات، هي قضية الساعة وفي تقديري أنها الأخطر والأهم، وسط قضايانا المتعددة ألا وهي قضية هجرة الأستاذ الجامعي وليس قضية اغتراب، لأن الاغتراب له أدبه وخطواته وتنظيمه، أما قضية الهجرة فمن أراد أن يستوثق عنها، فليذهب إلى الفنادق الخمسة نجوم، ووكالات السفر التي تحولت بقدرة قادر إلى وزارة عمل تدير أخطر عملية في تاريخ السودان الحديث وهي ترتيب هروب الأساتذة إلى دول البترول تحت غطاء (الاغتراب)، وما يحدث من هذا الفعل الشنيع لم تسبقه إلا هجرة (الفلاشا) عبر الأراضي السودانية، ورغم أن هجرة الأستاذ الجامعي السوداني المدرب والمؤهل تعادل كل أفواج الفلاشا التي عبرت أرض السودان في زمن حالك الظلمة والوعي. صحيح أن من حق الأستاذ أن يهاجر، لاعتبارات عديدة، خاصة في هذا الظرف الاقتصادي القاهر، ولكن بصورة تراعي وتوازن بين الاحتياج الداخلي، ومتطلبات واحتياجات الدول الأخرى، هل يعلم الاخوة في التعليم العالي عدد الأساتذة الذين غادروا، والذين ينتظرون المغادرة، وكذلك المؤهلات العلمية الرفيعة التي يحملونها وشروط التعاقد أو أقلها قضاء عامين في التدريس الجامعي، بل الأدهى والأمر أن أكثرهم في درجة (الأستاذية) في مقدمة الهروب الكبير، رغم أن احتياجات الوطن وأبنائه أغلى وأثمن من كل ريالات ودنانير الدنيا، فالفراغ الذي سوف يتركه هؤلاء العلماء لن يظهر قريباً، ولكن المستقبل جد خطير بعد هذه الهجرة التي لن يعود منها أحد، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية المنهارة، نحو هاوية سحيقة، لا نهاية لها. نعم للهجرة المرشدة والمحسوبة التي تعلمها المؤسسات المناط بها رعاية هذه الشريحة الغالية، وعن فترة غيابها وعودتها، وأماكن توجهها، وعلى القائمين على الأمر أن يفيقوا من هذا البيات الشتوي الذي سوف ينعكس وبالاً على مسيرة التعليم العالي التي تحتاج للعلاج أصلاً. أسوق هذه المقدمة الطويلة بعد أن استمعت للكلمة الرصينة والمبشرة التي ألقاها الدكتور الواثق عطا المنان الأمين العام لاتحاد المهن لأساتذة الجامعات السودانية، في افتتاح الدورة التدريبية بجامعة بحري التي تخطو بصورة علمية، نحو التميز من خلال تخصيصها ادارة للجودة والتميز والتي أمضت بعيداً في برامجها المتخصصة التي تهدف تنمية وترقية المهارات المهنية لأعضاء هيئة التدريس عبر تزويدهم بالمقررات المهنية العلمية المتميزة. نعود لحديث الأخ الواثق الأمين العام عند الدورات التي تم تنفيذها في شتى ضروب المعرفة ترقية وتطويراً للأستاذ الجامعي، بجانب تهيئة المناخ السوي والمعافى لاستقرار الأستاذ الجامعي من مساعدته في الحصول على السكن والسيارة، وتوفير الخدمات الصحية، وغيرها مما ذكره من حديث طيب.. لكن حقيقة أن كل هذه المشاريع التي قدمها لا تتوافق مع دخل الأستاذ الجامعي الذي لا يسمن أهله وأسرته ولا يغني من الهجرة لأن فرقاً واسعاً بين ما يدفعه كمقدمة للعربة أو السكن، ولو دفعها لعاش بقية الشهر في كفاف وجوع. والأمر يتطلب قرارات أكثر جدية وعملية. (فالمقدمات) المالية التي جاءت مصاحبة لمشاريع الاتحاد سواء للسكن أو تملك عربة فهي تعجيزية حتى وان بلغت 10% من السعر الأصلي. فالأمر يتطلب المزيد من البحث عن حلول تحد من هذه الهجرة المخيفة، وعلى الاخوة في الاتحاد المهني لأساتذة الجامعات أن يكملوا هذا المشوار الموفق بلا (مقدمات) أما مسألة التدريب فهذا عمل رائع، خاصة الدورة المشتركة مع جامعة بحري التي ولدت بسنونها وأضراسها، ويكفي أن ادارة الجودة تعمل كخلية النحل عبر شبابها الوثاب، وشيخها المتطور الأخ زين العابدين حسن محجوب مدير ادارة الجودة والتطوير، أما حديث البروفسور العلامة عميد كلية الآداب وممثل مدير الجامعة في افتتاح الدورة في كلمته، أن هذه الدورة تتفق مع شعار جامعة بحري (الجودة والتميز)، يؤكد أن خطوة العالمية تبدأ بالجودة والتميز... ولكن ماذا بعد هذه الجهود الرفيعة من قبل الاتحاد المهني وجامعة بحري في استقرار الجامعة وتطويرها وتميزها وحثه للأستاذ الجامعي على الاستمرار داخل وطنه وأهله وهذا يتطلب سياسة جادة غير مبنية على هتافات المؤتمرات والتوصيات التي تخرج من أفواه قائليها، أو التوصيات المركونة على الأرفف والدواليب، الأستاذ الجامعي يحتاج للاستقرار والاحساس بالدور الذي يلعبه داخل وطنه، وإذا توفرت له الحياة الكريمة فانه آخر من يهرب أو يفكر في الهجرة، هو الأستاذ الجامعي، لأنه يمتلك جداراً صلداً ضد مؤثرات الهجرة والاغتراب... أما ندوة اتحاد المهن لأساتذة الجامعة المرتقبة، تحت شعار هجرة الأستاذ الجامعي الحلول والأسباب، فهي تحتاج لقرارات حقيقية وليست أوراقاً واحتفالات افتتاح وختام وهيلمانة أكاديمية وإعلامية تنتهي بانتهاء ختام الدورة والسلام.