لا ريب أن للزمن سلاسل وإيقاعات في حياتنا اليومية. ولا تزال كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي ترن في الآذان: دقات قلب المرء قائلة له / إن الحياة دقائق وثواني فأرفع لنفسك بعد موتك ذكرها / فالذكر للإنسان عمر ثاني فنحن نشتري صحيفة كل يوم وقطعة صابون كل صباح ، وجركانة زيت من الدكان (السوبر ماركت) كل أسبوع، ونملأ خزان العربة بالوقود كل أسبوع أو عشرة أيام، ونصرف الراتب، وندفع الفواتير كل شهر، ونشتري تذكرة لدخول دار الرياضة كل شهر ولدخول المسرح أو السينما بضع مرات في السنة، وندفع الزكاة والضرائب كل عام ...الخ. فالناس يعملون ، يصنعون الأشياء ، ويقدمون الخدمات ويتدبرون أمورهم، ويعتني بعضهم ببعض ويمولون المشاريع والشركات ويعالجون المعلومات والمعطيات ويحولونها إلى معرفة وكل ذلك يتم وفق مواقيت محددة. وفي العصور القديمة سيما في المجتمعات الزراعية كان الناس لا يهتمون كثيراً بالزمن إلا بالقدر الذي يساعدهم في معرفة مواقيت الأمطار والزراعة والحصاد. وفي العصور الإقطاعية في آسيا وأوربا كان أقنان الأرض يتسلمون جزءاً من المحصول يحتفظون به لأنفسهم فمدة العمل لم تكن تتحول مباشرة إلى نقود، بل أن بعض رجال الدين في ذلك الزمان كانوا يعتبرون أن بيع العمل بالوقت بمثابة الربا، وهو بيع المال بالفائدة. وثمة صورة مغايرة لما سبق إيراده تتمثل في القيمة العظيمة التي يوليها الدين الإسلامي الحنيف للزمن وتبيان أهميته القصوى في الحياة الآنية والمستقبلية. وكما هو معلوم، فقد نبه القرآن الكريم بصيغ كثيرة للزمن منها الدهر، الحين، الآن، الأجل ، السرمد ، الأبد، الخلد ، العصر. فبعض هذه الصيغ له علاقة بالعمل والإدارة والتنظيم والبعض الآخر يشير إلى الكون والخلق والعقيدة والعادة. لا مشاحة أن الأهمية الكبرى التي يوليها القرآن الكريم للزمن تنبع من ارتباط العبادات في التشريع الإسلامي بمواعيد محددة وثابتة كالصلاة والزكاة والصيام والحج حيث إن أداءها لا يتحقق إلا بالالتزام بمواعيدها حسب اليوم والشهر والسنة. قال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء : 78 ) ، وقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (البقرة : 185 ) وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) (البقرة : 189 )، وقال تعالى : (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (الأنعام : 141) فضلاً عن العديد من الأحكام الشرعية التي ارتبطت بالمواقيت الزمنية المحددة كعدة المرأة في حالة الطلاق أو وفاة الزوج والكفارات في حالة ترك الصيام أو الإخلال ببعض مناسك الحج وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي تتطلب التقيد بالزمن كشرط أساسي في العبادة وصحة إنجاز العمل. وتتضمن السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي ترفع من قيمة الوقت وتصفه حيناً بالنعمة الكبرى ، إذ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» كما تربط السنة الزمن بالمسؤولية، ففي الحديث الشريف « لا تزل قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله فيما اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل فيه). وقرنت العبادة بالوقت فقال المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم : « الصلاة لوقتها «. وكان يقول أيضاً عن هلال رمضان « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». ودعت السنة النبوية إلى الاستفادة من الوقت وعدم إضاعته ، فجاء في الحديث ( إغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل مماتك). ورغم أن الغربيين قد استفادوا من الدعوة الإسلامية الرائدة في استغلال الوقت ، إلا أن منهجهم في الاستفادة منه مختلف تماماً وتبدو عليه الميكافيللية (الغاية تبرر الوسيلة). فبمجئ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وحتى يحقق أرباب العمل أقصى درجات الإنتاج بناءً على مقولة «الوقت من ذهب» كان عمال المناجم والمصانع يتقاضون أجورهم بالساعة. والغى الغرب تدريجياً القوانين التي تحرم الربا وأضفى شرعية على الفائدة بناءً على الوقت. وبهذا الأسلوب أصبح تقييم العمل والمال كلاهما يعتمد على الوقت بصورة متزايدة. ومنذ أربعة عقود خلت توقع مؤلف «صدمة المستقبل» للكاتبين الأمريكيين ألفين وهايدي توفلر بأن يشهد إيقاع الحياة وليس فقط العمل في العالم الغربي موجة جديدة من التسارع والشعور بانضغاط الوقت. وسرعان ما أضحى ذلك التوقع حقيقة ماثلة للعيان في السنوات الأخيرة بظهور طائفة من المفردات الجديدة مثل («مرض السرعة» و «تعميق الزمن» و «زمن الإنترنت» و «الزمن الرقمي» و «مجاعة الوقت») وتعكس كلها دقة التوقعات السابقة. واليوم يشعر الملايين من البشر بالانزعاج والضغط و «صدمة المستقبل» بسبب إنضغاط الوقت. ونشرت صحيفة إفنينج ستاندرد اللندنية تقارير عن ظهور معالجين مختصين لعلاج «مدمني السرعة» ومساعدتهم على التخفيف من سرعتهم. وفي جميع أنحاء أوروبا يندفع عشرات زبائن البنوك التجارية من أجل الاشتراك في محادثات مدتها خمس دقائق بعضهم مع بعض بحثاً عن علاقات جديدة وهي ما تدعوه صحيفة الفاينانشيال تايمز ب «المواعدة السريعة من أجل العمل». لكن الدقائق الخمس أعلاه يمكن أن تعادل دهراً في عالم الإنترنت حيث يغلق المستخدمون الموقع الإسفيري إذ استغرق ظهور الصفحة أكثر من (5-8) ثوانٍ. ويرى بعض الإختصاصيين أن وراء كل ضغوط الوقت والدفع بإبرة التسارع خارج عداد السرعة في إقتصاديات العالم تحرك تاريخي نحو نظام ثروة تستطيع مادته الأولية الرئيسة وهي المعرفة أن تتحرك في سرعة الوقت الحقيقي تقريباً. إننا نشهد إيقاعاً فائق السرعة حتى غدا القانون القديم (الوقت من ذهب) بحاجة إلى تعديل. فكل فترة من الزمن تساوي من المال أكثر من الفترة التي سبقتها ، لأن من الممكن ، مبدئياً إن لم يكن عملياً ، توليد كمية أكبر من الثروة خلالها. إن كل هذا يغير بالضرورة علاقتنا الشخصية بالوقت الذي هو أحد الأسس العميقة في مسار حياتنا. وفي مجال العلوم الطبيعية شهد العالم قبل عقدين من الزمان ثورة في الكيمياء الحديثة وتطبيقاتها ارتكزت بشكل أساسي على ظهور مقياس جديد للزمن سمى الفيمتوثانية Femto-Second وتوصل العالم المصري البروفيسور أحمد زويل (حائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م) إلى إبتداع مقياس للزمن بواسطة كاميرا فائقة السرعة تعمل بأشعة الليزر. وأصبح بإمكان الباحثين استخدام هذا الأسلوب العلمي في قياس الكيفية التي تحرك الذرات داخل الجزئيات خلال التفاعل الكيميائي عن طريق قياس الأشياء بتجميدها ثم تصويرها بعد ذلك بالكاميرا - الليزرية بوحدة الفيمتوثانية وهي «جزء من البليون جزء من الثانية». وعندما سئل أحمد زويل حول إكتشافه والكيفية التي يستطيع بها رجل الشارع العادي إستيعابه ، أجاب نصاً وحرفاً بالقول: «إذا كان الشخص جالساً أمام التلفاز، فإن مدة ذهاب شعاع إلى القمر والرجوع إليه بزمن الفيمتوثانية يساوي مدة ذهاب الأشعة إلى التلفاز ورجوعها إليه وهو جالس على كرسيه». ومما لاشك فيه أن هذا الاختراق العلمي الباهر قد أحدث إنقلاباً في مفهوم الإنسانية للزمن وإحداثياته كما ساهم في إحداث نقلة علمية كبيرة للغاية باستخدامه في العديد من المجالات كالطب (أبحاث السرطان) والإلكترونات وعلوم الفضاء والفيزياء والكيمياء وغيرها. وجدير بالتنويه أن المعرفة والاقتصادات المختلفة باتت تعتمد على الوقت بشكل أساسي كعامل حاسم يقود إلى مسار التقدم المضطرد. وليس أدل على ذلك من ابتداع الحواسيب العملاقة الفائقة السرعة (Super Computers) التي تقوم بأداء مليارات الأعمال الحسابية في طرفة عين. ولعل مما يدعو للفخر والإشادة أن إحدى البلدان العربية الشقيقة (المملكة العربية السعودية) قد أحست بالقيمة العالية للوقت واستثماره في صناعة الواقع والمستقبل. لذا فقد أدخلت نظام الحوسبة البالغ التعقيد في إحدى مؤسساتها العلمية (جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية) وذلك بالاشتراك مع شركة (أي بي أم IBM) الأمريكية. ويعتمد هذا النظام الجديد على حاسوب عملاق الأسرع في منطقة الشرق الأوسط - أطلق عليه إسم «شاهين» (تيمناً بالصقر العربي القناص) بمقدوره إجراء (222) تريليون نقطة عائمة في الثانية الواحدة. وبإمكان هذا النظام الحاسوبي بالغ الدقة المساهمة في حل مشاكل علمية معقدة جداً في عشرات التخصصات (تركيب البروتين وتحسين تصميم الأدوية والتنبؤ بالمناخ وعمل التصاميم الهندسية...الخ) فضلاً عن تطوير مجتمع اقتصادي قائم على المعرفة. ومما سلف ذكره، فإننا نلحظ حزمة تداعيات اقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية كبيرة مترتبة على هذه النقلات الحضارية المعقدة في حياتنا بفضل وتيرة العلم والتقنية البالغة السرعة وإفرازاتها « الحواسيب الصغيرة والمتوسطة والعملاقة والإنترنت والهواتف الجوالة «. ولعل هذه التحولات المفصلية في الحياة الإنسانية منذ نهاية القرن المنصرم وفي فواتيح القرن الحالي - في عوالمنا الثالثية- هي التي تدفع بالناس (الكهول والشيوخ) دوماً إلى التبرم من إيقاع الحياة المتسارع بشكل كبير . وكثيراً ما نراهم في تحنان وشوق دائم إلى ما يسمونه «الزمن الجميل» و»الزمن الأخضر»، زمن التمهل والتراخي والبطء حيث كل شيء يسير بسلحفائية تدعو للسأم والملل. وما انفكت ألسنة الكثيرين وبخاصة لدينا في السودان تلهج بالمقولات التي حفظناها عن ظهر قلب ولا يزال بعضها قيد الاستخدام العملي مثل «كل مطرودة ملحوقة» و «إن كثرت الهموم إدمدم ونوم» و»سد دي بطينة وسد دي بعجينة « ...الخ. ومع تزايد التوتر بين التزامن وعدم التزامن ومع التسارع المفرط في إيقاع الحياة ومع ارتفاع قيمة كل فترة استراحة من الزمن أكثر من سابقتها ، ومع قدرة الإنسان على إكتشاف فترات زمنية أقصر فأقصر وأطول فأطول والسيطرة عليها، بات العديد من أهل العلم يرون ثمة ثورة في الروابط البشرية وأحد الأسس العميقة للثروة سوف تحدث ، وأن شيئاً تاريخياً بحق في طريقه إلينا والله تعالى أعلم بخفاياه وهو الهادي إلى سواء السبيل. * عميد كلية الآداب بجامعة بحري.