لعَّل أبرز الإسقاطات السالبة للإنتخابات التى جرت خلال الأيام القليلة الماضية هى تلك الخلافات التى ظهرت على السطح وفى الوسائط الإعلامية بين كبار قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان .. صحيح أن الحركة بعد دخولها إلى الداخل كانت هناك الكثير من الخلافات التى تفجرت فيها وكادت أن تعصف بتماسكها ولكن قادة الحركة كانوا أكثر حكمة فى ذلك الوقت إذ لم تتجاوز تلك الخلافات دهاليز المؤسسة..ولكن فيما يبدو أن الإنتخابات التى جرت قد أفقدت قيادة الحركة الصواب إلى الدرجة التى وجدت فيها هذه الخلافات طريقها إلى وسائل الإعلام بصورة سافرة للغاية لم يعهدها المراقبون السياسيون فى مسيرة الحركة قط .. فهل أصبحت الخلافات التى كانت تهمس وتهمز بها أحاديث المدينة السياسية أمراً واقعاً.؟ وما مدى تأثيرها على كيان الحركة وإستقرارها فى المستقبل ؟. رغم تقليل قيادات الحركة من تأثير هذا الخلاف على تماسكها الداخلى ، إلا من العسير الجزم بأن الذى حدث سوف لن يؤثر على تماسكها، نؤكد أن الأيام القادمة ستشهد أحداثاً عاصفة داخل الحركة ، فليس من المألوف أن يصمت رئيس تنظيمٍ ما لمثل هذا التحدى السافر الذى تعرض له الفريق سلفا كير من قبل قيادات تتبع له ويُفترض أن تمتثل لتوجيهاته وتُبدى الإحترام لتصريحاته ، وإذ لابد من ذلك فلا أقل من أن يُثار الإعتراض عليها داخل أروقة مؤسسات الحركة. فرغم أن الفريق سلفا كير أكد أن الحركة لم تنسحب من الإنتخابات إلا على مستوى رئاسة الجمهورية فقط، يُعقب عليه الأمين العام للحركة السيد باقان أموم وبعد يومٍ واحد من تصريحاته وعبر وسائل الإعلام بأن الحركة قررت الإنسحاب من الإنتخابات فى كافة المستويات فى الشمال، وهو تناقض يُؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن الحركة ترزح تحت وطأة خلافات حادة داخلها، ليبدو منظر الحركة أسيفاً أمام الرأى العام الحادب على إستقرار الأمور فيها لتمضى بسلاسة حتى يحين أجل الإستفتاء بل يتعدى حرصهم إلى ما بعد الإستفتاء وذهاب الجنوب إلى حاله، فهم يدركون أن الجنوب ولو أصبح دولة مستقلة فإن هذا لا يعنى بأية حالٍ من الأحوال أن قضايا الشمال والجنوب تكون قد حُلت، فهناك مشاكل معلقة تستعصى على الحل وهى تتجاوز الإنفصال وإتفاق السلام الشامل مثل قضية الحدود، وليست حدود أبيى فحسب وإنما هناك حدود تمتد لأكثر من ألفى كيلو متر تتداخل فيها القبائل والمصالح الإقتصادية تقتضى بالضرورة أن تكون الحركة متماسكة وقوية وأن تكون الدولة الوليدة آمنة ومستقرة فلا تُصدِّر الأزمات إلى الشمال، وهكذا نرى أن لا فكاك لإرتباط الشمال والجنوب حتى بعد الإنفصال، وأية خلافات داخل الحركة تؤدى إلى صراع فى الجنوب هو أمر لا يجد الترحيب لدى الذين يتوقون إلى رؤية هذه المنطقة تعيش فى أمن وإستقرار. راجت الكثير من التكهنات والتحليلات تفسيراً للقرار الذى اتخذته الحركة بسحب السيد ياسر عرمان مرشحها لمنصب رئيس الجمهورية من سباق الإنتخابات، فهناك من يرى أنها سحبته بعد عقد إتفاق مع المؤتمر الوطنى، وهناك من يقولون إن ياسر عرمان هو الذى آثر الإنسحاب بعد تشاور داخل مؤسسة الحركة وأنه قد أقنعهم بحديثه الذى صدَّر به تصريحاته عقب إعلان الإنسحاب من أنه إنسحب لأن الإنتخابات ستكون مزورة وأن دارفور ليست آمنة ولا يمكن إجراء الإنتخابات فيها، أما الرأى الأخير فيقول إن تداعيات الصراع داخل الحركة هو السبب وراء سحب ياسر من سباق رئاسة الجمهورية، وأنا فى رأى فإن كل الآراء صحيحة ما عدا الرأى القائل بأن السيد عرمان هو الذى إنسحب من تلقاء نفسه، ولذا أرجِّح فرضية سحب الحركة له كنتاج لقرار المؤسسية ولكن تحت ظلالٍ من الصراع داخل الحركة، فالصراع الذى يشير إليه المحللون هو موجود بين الطرفين حتى قبل ترشيح ياسر للمنصب ولكن الإنتخابات ساهمت فى تفاقمه وبروز التيار المناوئ له، أى للسيد ياسر، الذى يُصنف ضمن ما يُعرف بأبناء قرنق فى أدبيات الصراع فى الحركة الشعبية، أما حديثه عن التزوير فهو مردود عليه، فياسر يُدرك جيداً أن هذه الإنتخابات سوف تجرى على هذا النحو من التزوير منذ التوقيع على إتفاق السلام الشامل قبل خمس سنوات وإن كان هناك تزوير كما يزعم فى الإنتخابات فهم فى الحركة الشعبية شركاء فيه بالأصالة، فالدستور الإنتقالى الذى أفرز المؤسسات التى أشرفت على الإنتخابات وسن قوانينها المستقاة منه وضعه الشريكان المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية، أما بخصوص دارفور فمنذ متى كانت قضية دارفور تتصدر إهتمامات السيد ياسر عرمان والحركة الشعبية التى ينتمى إليها؟ فملابسات مفاوضات أبوجا ومواقف قيادات الحركة الشعبية تجاه قضية الإقليم معلومة لدى الجميع ففيم المتاجرة بها؟ لا أحد يصدق السيد عرمان بأن عدم وجود الأمن فى إقليم دارفور وعدم حل قضيته هو وراء إنسحابه، بل إن مثل هذا الحديث من أشنع أنواع الإستخفاف بعقول أهل دارفور، فهل يصدقون أن السيد عرمان وبعد أن بدت الرئاسة قاب قوسين أو أدنى إليه للدرجة التى بدأ يُفكر فى تشكيل حكومته آثر الإنسحاب من أجل قضيتهم؟. أحد قيادات الحركة الشعبية قال فى مجلس خاص يضم بعض أصدقائه وهو يُشاهد قناة الجزيرة عشية سحب الحركة للسيد ياسر عرمان من سباق الترشح لرئاسة الجمهورية، إن ياسر صدّق بأنه سيكون رئيساً للجمهورية! بل قبل أن ينفض سامر المجموعة أجرت القناة حواراً على الهواء مباشرةً فى النشرة الرئيسية قال فيها ياسر إن الحركة ستُقاطع الإنتخابات فى كل الشمال وستخوض تلك التى ستجرى فى الجنوب فقط، ليفاجئ القيادى الكبير والمفكر فى الحركة الحاضرين مرة أخرى وهو يهتف قائلاً «لسع ياسر مصر.!» فى إشارة واضحة على أن ياسر كان قد أُستخدم لتنفيذ خطة معينة تخدم الحركة فى علاقاتها مع المؤتمر الوطنى! لم يترك أحد الحاضرين أن ينفض سامر الجلسة قبل أن يسأل سؤالاً مفاجئاً وجهه للقيادى عن وضع نائب رئيس حكومة الجنوب الدكتور رياك مشّار وعن سبب غيابه كل الشهور الأخيرة، فأجاب أن الدكتور رياك كان قد تعرض لمحاولة إقصاء من قبل أبناء قرنق وأنه بدأ فى العودة إلى مكانه القيادى فى قيادة الحركة ومن ثم إلى واجهة الأحداث وإلى موقعه الطبيعى والدليل على ذلك أنه هو الذى أذاع خبر سحب الحركة لمرشحها لمنصب رئيس الجمهورية السيد ياسر عرمان، وهو أمر حمل الحضور على تصديقه إذ أنه فى الآونة الأخيرة كانت القرارات المهمة يُذيعها الأمين العام السيد باقان أموم، و يعقد المؤتمرات الصحفية ليتلو قرارات الحركة ومواقفها، فهل نحن أمام خلافات وصراعات حادة داخل الحركة الشعبية؟ سننتظر ما ستسفر عنه الأيام القادمات عما يدور فى دهاليزها ، لكننا نرجو أن تستمر قيادات الحركة فى التحلى بخصلة ضبط النفس لتجاوز هذه الخلافات بمثلما فعلوا بعد تحطم طائرة الدكتور قرنق.