اعتدنا خلال السنوات الماضية على صناعة المشكلات والأزمات بأنفسنا ثم نعجز عن حلها عندما تتفاقم وندور في حلقات مفرغة تزيد الطين بلاً. كانت خدمات بنوك الدم تسير بشكل معقول نسبياً يتناسب مع واقع الخدمات الطبية العلاجية في البلاد، وفجأةً وبدون مقدمات صدر في عام 2008م قرار عن وزارة الصحة الاتحادية بمنع مستشفيات القطاع الخاص الطبي من تشغيل بنوك دم خاصة بها، والحصول على الدم من بنك الدم المركزي.. وأدى ذلك القرار إلى إغلاق أبواب بنوك دم عديدة كانت تشغلها المستشفيات الخاصة بكفاءة عالية وبمواصفات عالمية.. حدث هذا بالرغم من أن الجميع كان يعلم أن بنك الدم المركزي ليست لديه الكفاءة والإمكانات المالية والبشرية لتغطية احتياجات جميع المستشفيات الخاصة من الدم... وقد يتساءل القارئ المحترم عن أسباب اتخاذ ذلك القرار... وأقول إن القرار لم يكنْ مدعوماً بأية أسباب مهنية مقبولة، وإنما بني على سببين لا علاقة لهما بالمهنية.. السبب الأول ما رَوَّج له بعض جهلاء الصحافة السودانية في ذلك الوقت بأن الدم يباع في المستشفيات الخاصة، وصدق بعض السياسيين الأكثر جهلاً تلك المقولة... فالدم لا يُباع وإنما يتم تجهيزه بطريقة علمية ومهنية صحيحة وسليمة لها تكلفة يجب أن يدفعها المريض، لأن المستشفيات الخاصة المشغلة لبنوك الدم ليست جمعيات خيرية وإنما مؤسسات ربحية... فالدم تُجرى عليه أربعة فحوصات ذات تكلفة عالية، وهي فحص الإيدز + الكبد الوبائي بي + الكبد الوبائي سي + الزهري، ويوضع في أكياس خاصة، ويتولى العمل داخل بنك الدم تقنيون طبيون بتدريب خاص، ويُحفظ الدم داخل ثلاجات خاصة ببنوك الدم ذات تكلفة شرائية عالية، وحتى إعدام التالف من الدم يتم بتكلفة وليس مجاناً، هذا بالإضافة إلى تجهيز بنك الدم بالأثاث الطبي وغير الطبي، واستهلاك الكهرباء وغير ذلك.. وحتى إذا أضفنا إلى ذلك هامشاً بسيطاً فهو أمر مقبول لمقابلة المصاريف الإدارية غير المباشرة. السبب الثاني كان عبارة عن صراعات شخصية بين بعض اختصاصيي المختبرات بالوزارة وبعض زملائهم بالقطاع الطبي الخاص الذين يعملون ببنوك الدم الخاصة.. فهؤلاء كانوا يعتقدون أن هناك دجاجة تبيض ذهباً داخل كل بنك دم خاص، فتحركت في دواخلهم كل عناصر الغيرة والحسد الشخصي الأسود، وسعوا بحماس لإغلاق بنوك الدم بالمستشفيات الخاصة. وبالطبع يصبح الأمر مقبولاً إذا أرادت الحكومة أن تقدم الدم مجاناً للمرضى وقررت دفع تكاليف تجهيز الدم للمستشفيات الخاصة، ولكن هذا لم يحدث، بل الآن ثبت أن الحكومة لا تدعم حتى المستشفيات الحكومية بدفع تكاليف تجهيز الدم، بدليل ما حدث في بعض المستشفيات الولائية من توقف لخدمات بنوك الدم، بسبب عدم تسديد مديونية مالية للإمدادات الطبية مقابل توريد مستلزمات بنوك الدم لتلك المستشفيات. وفي تقديري أنه يمكن الخروج من مشكلة بنوك الدم إذا اتبعنا الخطوات التالية: أولاً: إلغاء القرار السابق الذي يمنع تشغيل المستشفيات الخاصة لبنوك الدم. ثانياً: إصدار قرار بإلزام أي مستشفى خاصة بتشغيل بنك دم خاص به، ومنح مستشفيات القطاع الخاص فرصة ستة أشهر لتجهيز وتشغيل بنك دم، وبعدها لا يجدد ترخيص أي مستشفى قائم ليس به بنك دم. ثالثاً: تكوين إدارة مركزية اتحادية لبنوك الدم بكفاءة عالية تتولى فقط مهام التقويم وضبط الجودة لبنوك الدم في جميع أنحاء السودان بالمستشفيات الحكومية والخاصة. ويشمل ذلك تحديد المواصفات لإنشاء بنك دم.. وتحديد مؤهلات الكوادر العاملة ببنوك الدم.. وتحديد نوعية المستلزمات الطبية المستخدمة من أكياس دم وأوساط حيوية ومحاليل.. وتحديد أساليب وطرق حفظ الدم والتخلص من التالف منه، هذا بالإضافة إلى مهام الرقابة الدورية المستمرة للأداء اليومي لبنوك الدم. رابعاً: يجب على الحكومة الاتحادية تغطية تكاليف تشغيل بنوك الدم بالكامل في جميع الولايات، بعيداً عن ميزانيات المستشفيات أو وزارات الصحة الولائية، لأن تقديم الدم للمريض داخل المستشفى الحكومي بأية ولاية هو مسألة إنقاذ لحياة إنسان، ولا تحتمل المطاولات البيروقراطية والتسويف الإداري وحالة اللامبالاة التي اعتاد عليها رجل الدولة برمي المسؤولية على الآخرين بين اتحادية وولائية ومحلية وغير ذلك. إن مشكلة بنوك الدم يمكن معالجتها إذا توفرت لدينا درجة عالية من الجدية والواقعية والشعور بالمسؤولية تجاه المريض السوداني.