أقر حزب المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم بأن قضية توطين العلاج بالداخل كانت أكبر هزيمة لثورة الإنقاذ الوطني منذ تقلدها زمام الحكم في أواسط العام 1989م ، بعد أن صرف عليها نحو (150) مليون دولار دون فائدة تذكر ، من جانبه دعا أمين أمانة الفكر والثقافة بالحزب الحاكم بابكر عبد السلام الى الاصطفاف وراء وزير الصحة لجهة أن الصحة كانت «مشرذمة» - على حد وصفه - ، وأوضح أن قضية توطين العلاج بالداخل كانت أكبر هزيمة للإنقاذ ،وأنه تم صرف نحو (150) مليون دولار عليها، وزاد أنه كان من الأولى الصرف على الرعاية الصحية الأولية ، وضرب مثلا بدولة كوبا ، معتبرا أن الثورة الحقيقية يجب أن تناقش داخل أروقة الحزب، وتابع بقوله «فترنا من كلمة أشاد ونُشيد» . بهذه الكلمات المختصرة وصف الحزب الحاكم تجربة أحد مشروعاته الهامة - برنامج توطين العلاج بالداخل -والذي بدأت فكرته منذ العام 2000م ونحن الآن في العام 2012م ، حيث مضى على هذا البرنامج أكثر من (12) عاماً وإلى الآن لم ير النور ... فمن المسئول الأول ؟ وما هي أسباب فشل هذا المشروع الحيوي والهام ؟ وهل هنالك بادرة أمل ليرى هذا البرنامج النور ؟ وما قول المختصين بوزارة الصحة ؟ كل هذه الأسئلة وغيرها نحاول أن نجيب عليها في هذا التحقيق ... فلاش باك فكرة إنشاء برنامج توطين العلاج بالداخل ، نبعت نظراً لفقر البنية التحتية للعمل الطبي ومحدودية الخدمات الطبية ذات الجودة العالية وتأثيرها سلباً على المواطن السوداني، الذي يعاني من شقاء السفر بغرض العلاج في الخارج ، خصوصاً مع ارتفاع أسعار الدولار وتحديد سقف محدد له ، وبعد النقاشات المستمرة لهذه النقاط بين وزارة الصحة ومجلس الوزراء، ووزارة المالية تولد برنامج توطين العلاج بالداخل .ويهدف البرنامج - كما كان متوقعا منه - توفير الخدمات الطبية ذات الجودة العالية بالقرب من مساكن المواطنين ، وذلك لتقليل السفر الى خارج السودان بسبب العلاج ، وكذلك تقليل سفر المرضى من الولايات إلى الخرطوم بغرض طلب العلاج ، والمواصلة في توفير البنية التحتية المناسبة للعمل الطبي ، والمساهمة في تدريب الكوادر الطبية المختلفة تحقيقاً لعدالة التوزيع وتوفير الخدمات الطبية . كانت هذه أهم أهداف برنامج توطين العلاج ، والسؤال هو : هل تحققت هذه الأهداف ؟ وكم نسبة ما تحقق منها ؟ وما هي المعوقات ؟ ... مكونات المشروع تنقسم خدمات المشروع لعدة مستويات أهمها تكملة بعض الأجهزة في أقسام المخ والأعصاب والعظام والمسالك البولية والعيون وذلك بفتح وحدات جديدة مثل مستشفيات : الصيني - سوبا- المناطق الحارة والأورام وغيرها .كذلك ضمن مكونات المشروع تقديم خدمات المستشفيات الاتحادية بغرض تكملة النقص في المستشفيات الرئيسية : الخرطوم بحري - الخرطوم - أمدرمان - الدايات.إضافةً إلى خدمات المستشفى الأول بكل ولاية تكملةً للمعيار القياسي للأجهزة بمستشفيات المستوى الأول بإضافة بعض وحدات التصوير والعنايات والمناظير بتلك الولايات.كذلك توفير خدمات الوحدات الخاصة بمستشفيات المعتمديات والمستشفيات الريفية بأن تحتوي على أقل تقدير على معامل الصحة العامة بالولايات وفتح نقاط جديدة للتخصصات الفرعية مثل العيون- الأنف والأذن والحنجرة - الأسنان - بنوك الدم - الأشعة - المعمل - الولادة ، بكل مدينة في السودان.ووضع المشروع ضمن أولوياته الاهتمام والحرص على توفير الأجهزة التشخيصية التي تعتبر الأهم في المجال الطبي والتي تتمثل في : الأجهزة التشخيصية الخاصة بقسم الأشعة التصويرية و أجهزة الأشعة السينية الثابتة والمتحركة وأجهزة التصوير بالموجات الصوتيةوالأجهزة التشخيصية الخاصة بقسم المعمل للفحوصات الروتينية. كما شملت أيضاً كثيرا من أجهزة التخصصات المهمة والنادرة التي تتمثل في أجهزة المخ والأعصاب وأجهزة ومعدات العظام وأجهزة العيون وأجهزة المسالك البولية وأجهزة رسم القلب إضافةً إلى العمليات والعناية المكثفة . المرحلة الأولى وبحسب الخطة الموضوعة للبرنامج فقد غطت المرحلة الاولى توزيع العديد من الأجهزة بالأقسام الهامة والرئيسية لعدد (10) مستشفيات اتحادية و (15) مستشفى ولائي أول و(49) من المستشفيات بالمحليات المختلفة ومستشفى نور العيون بالسلاح الطبى ومستشفى الشرطة ، وبلغت التكلفة الكلية لبرنامج توطين العلاج بالداخل في مرحلته الأولى هذه مبلغ (13) مليون دولار وزعت كالآتي : (7) ملايين دولار للمراكز التخصصية والمستشفيات و(6) ملايين دولار للولايات . المرحلة الثانية بدأت المرحلة الثانية لبرنامج توطين العلاج بالداخل بعد النجاح الكبير الذي حققته المرحلة الأولى ، ومواصلةً لالتزام الدولة في تنفيذ هذا المشروع كان لابد من التوسع في العديد من التخصصات مثل : أجهزة الاشعة التخصصية وأجهزة العيون وأجهزة الاسنان وأجهزة المعامل الحديثة وأجهزة ومعدات الأنف والأذن والحنجرة وأجهزة جراحة التجميل ووحدة الحروق بالإضافة لأجهزة تفتيت الحصاوى وأجهزة مناظير الجهاز الهضمي ،إضافةً لتأهيل المستشفى الأول لكل ولاية من ولايات السودان وتطوير التخصصات الفرعية لتشمل كافة المدن الرئيسية بالسودان.أما مكونات هذه المرحلة في مجال خدمات المستشفيات الإتحادية استكمال الأجهزة لقسم الأشعة والمعمل والعيون وفتح وحدات جديدة لبعض المستشفيات العاملة في التخصصات النادرة واستجلاب الأجهزة المعنية لها مثل : أجهزة رسم المخ والأعصاب وأجهزة العظام وتفتيت الحصاوى وجراحة التجميل وجراحة الأنف والأذن والحنجرة وأجهزة المناظير .هذا بالإضافة لعمل بنية تحتية لمستشفيات المحافظات ومستشفيات المحليات مع تحديد حاجتها الفعلية من الاجهزة وفتح نقاط جديدة للتخصصات وتأهيل القديم منها مثل العيون والأنف والأذن والحنجرة والأسنان والأشعة والمعمل والولادة وغرف العمليات وبنك الدم مع ضمان استمرارية العمل بالمستشفيات وتدريب الكادر الهندسى وإنشاء ورشة الصيانة وتوفير أجهزة التعليم المستمر وتوفير نظام الغازات الطبية والتعقيم المركزي والغسيل المركزي .وفي هذه المرحلة تم التوسع في توزيع الاجهزة لتغطي عددا اكبر من مستشفيات السودان في كثير من التخصصات والتي شملت : (18) مستشفى اتحاديا و(15) مستشفى ولائيا و(62) مستشفى محلية و(5) مراكز تخصصية . الطب العلاجي وقام مشروع التوطين بإنشاء وحدة العلاج الطبيعي التي تتبع لإدارة المستشفيات بوزارة الصحة وتتلخص أهم أهدافها في تحديد الحاجة الفعلية والاشراف على تدريب الكوادر الطبية وتوسيع علاقات العمل مع الشركات العالمية وتوفير الكادر الهندسي الطبي بجميع المستشفيات ووضع المواصفات والمقاييس للأجهزة الطبية . التدريب اتبعت وزارة الصحة منهجية للتدريب الخارجي لكل من الأطباء والمهندسين الطبيين وتقنيي الأشعة وفنيي المعامل في المجالات المختلفة حيث تم تدريب عدد (33) أختصاصيا و (35) مهندسا طبيا و(2) تقنيي أشعة و (2) تقنيي معمل ، وتم تدريبهم في التخصصات المختلفة في اليابان وألمانيا وإيطاليا والدنمارك .كذلك قامت الوزارة بإستجلاب متخصصين من بلد المنشأ لتركيب الأجهزة في مواقعها وتدريب الفنيين والمهندسين والأطباء على آلية التشغيل.هذا وقد بلغت تكلفة المرحلة الثانية من مشروع التوطين مبلغ (17) مليون دولار تم توزيعها كالآتي : (8) ملايين دولار للمراكز التخصصية والمستشفيات و(9) ملايين دولار للولايات .انطلاقا من هذه المرحلة واعتمادا على المسح الميداني الذي قامت به وزارة الصحة لتحديد الحاجة الفعلية وضع تصور المرحلة الثالثة من المشروع لتشمل التخصصات المختلفة وفقا للمعيار القياسي للمستشفيات . فشل ذريع بالرغم من وضوح الرؤية والخطط المنضبطة التي وضعت لهذا المشروع والدعم السياسي والمادي التي صرفت على هذا المشروع الضخم والهائل وعلى الرغم من توفر مساحة الزمن الكافية لقيامه منذ العام 2000 وحتى هذا العام لم نخرج من هذا المشروع إلا بالتصريحات التي تصفه بالمشروع الفاشل، والذي لم يحقق أي هدفٍ من أهدافه الموضوعة له ، ولن يتحقق هذا المشروع إلا أن يترك المسئولون السفر للعلاج - على قول أحد الأطباء . المرحلة الثالثة بعد أن أصبح المشروع يمضي بخطواته ومراحله الأولى والثانية جمّدت وزارة الصحة الاتحادية برنامج مشروع توطين العلاج بالداخل في المرحلة الثالثة ؛ لإخضاعه لدراسة شاملة ، إضافة إلى مراجعة المرحلة الثانية وإعادة النظر في التجربة . حيث أعلن د. كمال عبد القادر وكيل وزارة الصحة سابقاً في تصريحٍ له عن تشكيل لجنة واسعة من وزارتي الصحة والمالية والجهات ذات الصلة لمراجعة التجربتين السابقتين . تجميد المشروع وقال د.كمال عبد القادر وكيل وزارة الصحة الاتحادية السابق في حديث ل(الرأي العام) بأنه جمَّد المرحلة الثالثة من مشروع توطين العلاج بالداخل لأسباب كثيرة منها عدم التزام الولايات بتوفير البنى التحتية لمستشفياتها مع العلم بأن وزارة الصحة تكفلت باستيراد الاجهزة الطبية الحديثة، واتفقت مع الولايات والمستشفيات الولائية بتجهيز البنية التحتية لهذه الأجهزة ، ولكن بعض الولايات لم تلتزم بتوفير البنى التحتية إلى أن انتهت فترة الضمان للأجهزة مما جعل الأجهزة الحديثة وغالية الثمن معروضة في العراء وتحت هجير الشمس وبالتالى تعطلت وضاعت هباءً منثورا ، ويواصل د. كمال كذلك من الأسباب التي دعت لتجميد البرنامج هو تدريب الكوادر الطبية على هذه الأجهزة، حيث أن هذا التدريب كان صورياً ودفعت فيه مبالغ كبيرة وسافر مهندسون الى خارج السودان للتدريب ولكن للأسف الشخص المتدرب يكون من رئاسة الوزارة بينما الجهاز يكون في نيالا ، وكذلك لم يكن هنالك تواكب وتطابق بين نوع التدريب ونوعية الأجهزة ، وكذلك نوعية التدريب لم تكن كافية في كثير من الأوقات لضمان الاستخدام الأمثل للأجهزة . وأقر د. كمال بحدوث بعض التشوهات للبرنامج ،بينما أكد بأن معظم الأجهزة - وحسب علمه كما قال - تعمل بصورة مرضية ، ونماذج لها المراكز التشخيصية في كلٍ من القضارف والأبيض وكسلا ونيالا وبورتسودان . الأهداف مستمرة وأوضح د.عصام الدين محمد عبدالله وكيل وزارة الصحة الاتحادية ل(الرأي العام) بأن مشروع توطين العلاج بالداخل قد توقف كمشروع تحت مسمى - مشروع توطين العلاج بالداخل - ، ولكن الاهداف التي من أجلها قام المشروع ما زالت مستمرة ، الأهداف العامة هي تحسين الخدمات الطبية والعلاجية الأساسية بالسودان ، والآن هنالك مشروع توفير المعدات الطبية بتكلفة (12) مليون جنيه في العام ، وهذا المشروع يعمل لأكثر من عامين ومازال العمل فيه مستمراً حتى نصل به إلى توفر كل المعدات الطبية الأساسية بالولايات ، كذلك هنالك مشروع لنقل الاختصاصيين للولايات وتم في خلال الثلاثة أشهر السابقة فقط نقل (45) اختصاصيا لولايات السودان المختلفة . فمشروع توطين العلاج بالداخل يعمل تحت هذه الأسماء وهو مستمر فقط نحتاج إلى المزيد من التمويل للاسراع بتنفيذ هذه الخطة . مركز القلب بمدني اشتكى مركز القلب بود مدني من جملة إشكالات تواجه المركز أبرزها تمويل عمليات القلب باهظة التكاليف، وفيما أكد المركز أنه يوفر على البلاد تكاليف كبيرة تُدفع في العلاج بالخارج ناشد الخيرين المساهمة في دفع تكاليف العمليات مشيرًا إلى أن أغلب المرضى من ذوي الدخل المحدود .ووعد البرلمان بالتدخل للضغط على ديوان الزكاة الاتحادي للمساهمة في التمويل، وطالب الولايات المحيطة بالجزيرة بتحديد مبلغ شهري للمركز باعتبار أن عددًا من المرضى وافدون من ولايات مجاورة ، فيما تبلغ عدد حالات الانتظار لعمليات القلب بالمركز »123« حالة العام السابق ، الأمر الذي جعل رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية بالبرلمان في العام الماضي يتساءل عن أموال توطين العلاج بالداخل قائلاً: (دايرين نشوف ميزانية العلاج بالداخل مشت وين ) ؟وقال مدير مركز ود مدني لأمراض وجراحة القلب لوفد لجنة الشؤون الاجتماعية إنه إذا دعمت الحكومة الخدمات العلاجية بالمركز لن يحتاج أي مريض للسفر إلى الخارج لتلقي العلاج الذي يتوفر في المركز عبر أفضل الإمكانات والكوادر البشرية ، وقال إن المركز من أكبر المراكز الإقليمية في إفريقيا، بيد أن الإمكانات هي التي تحدُّ من عمله مشيرًا لوجود »3« جراحين، وأشار إلى أن العمليات التي يقوم بها المركز هي الأرخص في كل السودان . المشروع فاشل وأكد مصدر طبي بوزارة الصحة ل(الرأي العام)- فضّل حجب اسمه - أن مشروع توطين العلاج بالداخل وجد الدعم السياسي والمالي الكافي جداً لقيامه ولكنه فشل ؛ وذلك لأن الأجهزة الطبية التي استجلبت لم تكن مطابقة للمواصفات الفنية المطلوبة ، وكذلك لم تستصحب خدمات ما بعد البيع ، ولذلك إلى الآن هذه الأجهزة غير مستعملة وغير مفعلة ولا يوجد من يستطيع تشغيلها أو صيانتها ، وبذلك فهذا المشروع فاشل بنسبة( 100%) من أوله لأنه لم يراع المهنية وتدخلت قرارات سياسية ، ولم يستطع هذا المشروع أن يوطن العلاج بالداخل بقدر ماصرفت عليه مبالغ ضخمة ، والمواطن لم يستفد منه ولا حتى بنسبة 1% ، بل حتى المخازن التي خزنت فيها هذه الاجهزة لم تكن مهيأة ، وكانت عبارة عن دكاكين غير مهيأة ولا يوجد بها تكييف والأجهزة كانت توضع في العراء ، ومعظم الحقن التي استوردت لهذا البرنامج كانت تأتي منتهية الصلاحية ، وكان توزيع أجهزة ومعدات البرنامج عشوائياً بحيث كل مستشفى يطلبها يعطي لها من غير عمل دراسة للمستشفى هل يحتاج لها فعلاً أم لا ؟ وكذلك عطاءات هذا البرنامج كانت محصورة لشركة واحدة فقط ورئيس مجلس ادارة هذه الشركة كان يعمل بمنصب رفيع بوزارة الصحة وقتها ، وكانت كل أجهزة البرنامج حصرياً على هذه الشركة وهو ما يخالف قانون المشتريات الحكومية . وتمت تصفية هذه الشركة بمجرد توقف برنامج التوطين .وفي الأثناء اتهم مصدر بوزارة الصحة الأطباء بسعيهم لقتل وذبح مشروع توطين العلاج بالداخل حيث قال : للأطباء دور كبير في فشل مشروع التوطين بالداخل وذلك لإنعاش مستشفياتهم الخاصة والتي تتوفر فيها هذه الأجهزة ذات التكاليف الباهظة ، والأطباء هنا غير مؤهلين بدليل الأخطاء الطبية التي تحدث بين كل دقيقة وأخرى وهذا يرجع للجهة الرقابية المسئولة عن الأطباء ، وهم الأطباء أنفسهم وكالمعتاد فلا يوجد طبيب يغلط زميله ، وطالب - المصدر الذي فضل حجب اسمه - انشاء نيابة متخصصة يكون لها استقلالية مستقلة للأخطاء الطبية . ويرى المصدر الطبي أن الخروج بحلول ناجحة لهذا المشروع تتوقف على محاربة الفساد الداخلي وفتح تحقيق كامل وشامل عن توطين العلاج بالداخل بصورة شفافة وواضحة ، حتى يجود الموجود ويتفادوا السلبيات السابقة ، ولو وجد هذا المشروع الارادة السياسية القوية سيرى النور .